لم تكن المسافة بيني وبين القدس تُقاس بالكيلومترات، بل بالحواجز، بالبنادق، بالأسلاك التي تشقّ الروح قبل الأرض. وُلدتُ في غزّة، لكنني محاصَر في بقعةٍ تُجرِّم حتى النوايا، حيث تصبح الرغبة في الوصول تُهمة، وكأنك إذا همست: “أريد أن أزور القدس”، كُتِب اسمك في سجلّ الانتظار الأبدي. في غرفتي الضيّقة، وسط ركام البيت، كنتُ أُحدّق كلّ ليلة في صورة باهتة للمسجد الأقصى معلّقةٍ على الحائط. كانت القُبّة الذهبيّة تلمع خلف الغبار، كأنّها تهمس لي: “أنا هنا.. لا تنسَ ذلك.” كلّ ما أردتُه أن أُصلّي ركعتين هناك، أن أضع جبيني على تلك الأرض، أن أتنفّس التاريخ، لا من الكتب، بل من رائحة الحجر. فقرّرتُ أن أُقرّب القدس إليّ. جمعتُ صورًا، طبعتُ خرائط، رتّبتُ حجارةً استخرجتُها من أنقاض بيتنا.. فرشتُ السجادة، وأوقدتُ بخورًا يُشبه رائحة المسجد، وصرتُ أبني في غرفتي محرابًا صغيرًا يليق برغبتي. لم أُخبر أحدًا بعزلتي المقدّسة. وكنتُ أطير كلّ ليلة إلى القدس.. لا خريطة في يدي، ولا صوت يدلّني، لكن الطرق كانت تفتح أمامي، كأنّها تعرف قلبي. أدور في أروقة المعابد، أعانق الكنائس العتيقة، وأمسح الحزن عن قباب المساجد. أمشي في أحيائها القديمة، تُلامس قدمي حجارة تتذكّرني، كأنها تناديني باسمٍ لم أنسَه يومًا. أصل إلى المسجد، لا ضيفًا، بل كأنني عشتُ فيه عمرًا. أدخل من باب العامود(*)، أستنشق عبق السوق القديم: رائحة الخبز والزعتر.. وأخطو بين الأزقة الضيّقة، التي تحفظ أسماء المارّين كأنّها كتب تاريخ لا تنام. ويتناهى إليّ من بعيد صوت فيروز، يخرج كأنّه من الجدران، من النوافذ، من الصلوات المكتومة: لأجلكِ يا مدينةَ الصلاة أُصلّي، لأجلكِ يا بهيّةَ المساكن، يا زهرةَ المدائن، يا قُدس، يا قُدس، يا قُدس. وفي كلّ صباح، أستيقظ على صوت القصف، على الجدران التي تضيق، والسماء التي لا تفتح. كلّ فجر، كنتُ أتوضّأ، أدخل حافيَ القدمين، أرفع يديّ، وأُصلّي، كما لو أنني في ساحة الأقصى. وفي مساء جمعة، بعد قصفٍ عنيف، لبستُ ثوبي الأبيض، أغلقتُ الباب، وقلتُ بصوتٍ مرتجف: “اللهمّ، إنني نويتُ الزيارة، وإن لم أملك إلّا هذه السجدة.” وسجدت. ثم.. انفجار، وبعده ظلام وغبارٌ يتصاعد. لكن من تحت الركام، سمعتُ صوت الأذان، صافيًا.. لا من الخارج، بل من داخلي. فتحتُ عينيّ ببطء.. لم أكن في غرفتي. كنتُ هناك، في ساحة المسجد الأقصى. رأيتُ الضوء ينساب على القُبّة، شممتُ التراب، سمعتُ الأطفال، وشعرتُ كأنني عدتُ إلى مكانٍ لم أغادره أبدًا. اقترب منّي شيخ، ناولني كوب ماء، وقال بابتسامة هادئة: “أهلًا بك في المسجد الأقصى.. وصلتَ متأخرًا، لكنّك وصلت.” سألته: “هل أنا في القدس؟ هل أنا حيّ؟ هل هذا حُلم؟” فاكتفى بابتسامة، واختفى وسط المصلّين. وفي اليوم التالي، حين عاد الناس إلى الحيّ المُدمَّر، وجدوا البيت قد انهار بالكامل. لكن السجادة بقيت مفروشة، وعليها آثار قدميّ.. تتّجه نحو القدس
*باب العامود: المعروف أيضًا بـ باب دمشق أو باب نابلس، هو أحد أهم وأجمل أبواب مدينة القدس، ويعد المدخل الرئيسي للكثير من المعالم الهامة في القدس، ويؤدي إلى أسواق تقليدية داخل البلدة القديمة.
مقالات أخرى للكاتب
لا توجد مقالات أخرى لهذا الكاتب.
في حضرة الأقصى
لم تكن المسافة بيني وبين القدس تُقاس بالكيلومترات، بل بالحواجز، بالبنادق، بالأسلاك التي تشقّ الروح قبل الأرض. وُلدتُ في غزّة، لكنني محاصَر في بقعةٍ تُجرِّم حتى النوايا، حيث تصبح الرغبة في الوصول تُهمة، وكأنك إذا همست: “أريد أن أزور القدس”، كُتِب اسمك في سجلّ الانتظار الأبدي. في غرفتي الضيّقة، وسط ركام البيت، كنتُ أُحدّق كلّ ليلة في صورة باهتة للمسجد الأقصى معلّقةٍ على الحائط. كانت القُبّة الذهبيّة تلمع خلف الغبار، كأنّها تهمس لي: “أنا هنا.. لا تنسَ ذلك.” كلّ ما أردتُه أن أُصلّي ركعتين هناك، أن أضع جبيني على تلك الأرض، أن أتنفّس التاريخ، لا من الكتب، بل من رائحة الحجر. فقرّرتُ أن أُقرّب القدس إليّ. جمعتُ صورًا، طبعتُ خرائط، رتّبتُ حجارةً استخرجتُها من أنقاض بيتنا.. فرشتُ السجادة، وأوقدتُ بخورًا يُشبه رائحة المسجد، وصرتُ أبني في غرفتي محرابًا صغيرًا يليق برغبتي. لم أُخبر أحدًا بعزلتي المقدّسة. وكنتُ أطير كلّ ليلة إلى القدس.. لا خريطة في يدي، ولا صوت يدلّني، لكن الطرق كانت تفتح أمامي، كأنّها تعرف قلبي. أدور في أروقة المعابد، أعانق الكنائس العتيقة، وأمسح الحزن عن قباب المساجد. أمشي في أحيائها القديمة، تُلامس قدمي حجارة تتذكّرني، كأنها تناديني باسمٍ لم أنسَه يومًا. أصل إلى المسجد، لا ضيفًا، بل كأنني عشتُ فيه عمرًا. أدخل من باب العامود(*)، أستنشق عبق السوق القديم: رائحة الخبز والزعتر.. وأخطو بين الأزقة الضيّقة، التي تحفظ أسماء المارّين كأنّها كتب تاريخ لا تنام. ويتناهى إليّ من بعيد صوت فيروز، يخرج كأنّه من الجدران، من النوافذ، من الصلوات المكتومة: لأجلكِ يا مدينةَ الصلاة أُصلّي، لأجلكِ يا بهيّةَ المساكن، يا زهرةَ المدائن، يا قُدس، يا قُدس، يا قُدس. وفي كلّ صباح، أستيقظ على صوت القصف، على الجدران التي تضيق، والسماء التي لا تفتح. كلّ فجر، كنتُ أتوضّأ، أدخل حافيَ القدمين، أرفع يديّ، وأُصلّي، كما لو أنني في ساحة الأقصى. وفي مساء جمعة، بعد قصفٍ عنيف، لبستُ ثوبي الأبيض، أغلقتُ الباب، وقلتُ بصوتٍ مرتجف: “اللهمّ، إنني نويتُ الزيارة، وإن لم أملك إلّا هذه السجدة.” وسجدت. ثم.. انفجار، وبعده ظلام وغبارٌ يتصاعد. لكن من تحت الركام، سمعتُ صوت الأذان، صافيًا.. لا من الخارج، بل من داخلي. فتحتُ عينيّ ببطء.. لم أكن في غرفتي. كنتُ هناك، في ساحة المسجد الأقصى. رأيتُ الضوء ينساب على القُبّة، شممتُ التراب، سمعتُ الأطفال، وشعرتُ كأنني عدتُ إلى مكانٍ لم أغادره أبدًا. اقترب منّي شيخ، ناولني كوب ماء، وقال بابتسامة هادئة: “أهلًا بك في المسجد الأقصى.. وصلتَ متأخرًا، لكنّك وصلت.” سألته: “هل أنا في القدس؟ هل أنا حيّ؟ هل هذا حُلم؟” فاكتفى بابتسامة، واختفى وسط المصلّين. وفي اليوم التالي، حين عاد الناس إلى الحيّ المُدمَّر، وجدوا البيت قد انهار بالكامل. لكن السجادة بقيت مفروشة، وعليها آثار قدميّ.. تتّجه نحو القدس
*باب العامود: المعروف أيضًا بـ باب دمشق أو باب نابلس، هو أحد أهم وأجمل أبواب مدينة القدس، ويعد المدخل الرئيسي للكثير من المعالم الهامة في القدس، ويؤدي إلى أسواق تقليدية داخل البلدة القديمة.
التعليقات