“ما كان يجب أن أمتلك كل هذا الوعي طالما أنني اعيش في عالم مبني على سلام مهترئ” كافكا. عنوان الرواية… “الأنوناكي”: مفردة سومرية حيكت حولها أسطورة مفادها أن الأنوناكي هم مخلوقات فضائية جاؤوا من كوكب “نيبيرو” وهو كوكب غير حقيقي، ولا يوجد ما يثبت وجوده، وبحسب الأسطورة فإن هذه المخلوقات كان لها دور في تطوير الجنس البشري لتسخيرهم للعمل في مناجم الذهب، المعدن الذي يحتاجونه لرتق غلاف كوكبهم الجوي نتيجة تلوث بيئي، فأصبح كوكب نيبيرو عرضة للإشعاعات الكونية. كل ما ذكر انفاً جاء به “زكريا ستيشن” وهو كاتب أمريكي من أصل روسي متوفى سنة ٢٠١٠. ليأتي الباحث العراقي “خزعل الماجدي” المتخصص في الميثولوجيا وتاريخ الأديان ليدحض كل ما أشاعه زكريا استيشن، حيث تطرق لمعنى كلمة الأنوناكي في القاموس السومري، وهي أن الأنوناكي تعني عند السومريين مجموعة الآلهة التي تظهر في أساطير السومريين والأكديين والآشوريين والبابليين، وتعني الذين هبطوا من السماء إلى الأرض، وقد يعني الاسم (ذرية الأمير) لأن الإله آن كان أكبر آلهة الأنوناكي، هو سيد وأمير الآلهة، فهم آن وأبناؤه، وهم الآلهة المتحكمون بمصائر البشر والكون، إذن هي معتقدات دينية في ميثولوجيا (علم الأساطير) السومرية. بهذا تكون ميادة سامي، اتخذت عنواناً مثيراً للجدل ليكون ثريا روايتها، وهذا يحسب لها، فقد أطلقت اسم الأنوناكي على أبطال الرواية السبعة، وذلك لدورهم الاساسي في إعادة الحياة للأرض بعد دمارها كلياً، بسبب اقتراب كوكب نيبيرو من الأرض ليتسبب بكل هذا الدمار الشامل. صورة الغلاف… صورة للملكة الآشورية سميرة اميس “سمورا مات” إشارة أخرى بأن الرواية تاريخية بملامح أسطورية، فهي أي سميرة اميس شخصية تاريخية حيكت حولها الأساطير. آلية السرد… تستهل المؤلفة روايتها بمشهد غرائبي يستدرج القارئ للدخول إلى عالم مثير، هذا المشهد مع الإهداء يفصح عن مكنونات مشاعر الحب للوطن الذي يَعمرُ به قلب سامي وقلوب أمثالها من العراقيين الشرفاء المحبين لوطنهم. تبدأ سامي سرد أحداث روايتها بقصة حب، على الرغم من أن الرواية لا تُعد من القصص الرومانسية، بل تتعدد تصنيفاتها بين التاريخية والأسطورية والملحمية والخيال العلمي، مع هذا نرى الحب قد تسرب كالماء بين سطور الرواية. كسّرت سامي أصفاد الزمن بحجارة الجرأة والإقدام، مما منحها مرونة التلاعب بالأحداث والسيطرة التامة على مجرياتها، خيالها الخصب صَوّر مشاهد مكثفة ليتلقاها القارئ بكل سلاسة وشغف وبلغة سردية بليغة. الثيمة الأسطورية… الرواية تحاكي أسطورة الأنوناكي في بنيتها الحكائية، من خلال مخلوقات فضائية متطورة تخطف سبعة أشخاص من سكان الأرض يشتركون في صفات تؤهلهم للقيام بمهمة على كوكب آخر، هؤلاء الأشخاص لا يتم اختيارهم من حقبة تاريخية واحدة، بل من حقب متعددة من تاريخ العراق. الأشخاص هم هيفاته ابنة الملكة سميرة اميس، والحكيم اوميا وهم من الإمبراطورية الآشورية، محمد بن يحيى وعبد الرحمن من عصر الخلافة العباسية، جلال وكمال وسامر من العصر الحديث والمعاصر. أطلق الخاطفون مفردة الأنوناكي على كل فرد منهم وبتسلسل رقمي من ١- ٧. تنتهي مهمة هؤلاء الأنوناكي بينما يكتشفون أن سكان هذا الكوكب من المخلوقات الغريبة قد اختفوا، ولم يبق أحد في الكوكب غيرهم، لتبدأ رحلة البحث عن كيفية العودة إلى الأرض، فيكتشفوا أن المخلوقات تركتهم بسبب قدوم كوكب نيبيرو نحو كوكبهم، لكنهم لم يتركوهم بلا وسيلة للعودة إلى الأرض، فيهتدوا لمركبة فضائية أُعدت لأجلهم. كان هبوط الأنوناكي السبعة، في زمن المستقبل، وقد وجدوا الأرض قد دمرت بشكل كامل، بلا عمران ولا تكنولوجيا، فقط قرى متفرقة هنا وهناك، وقد سيطر الخوف والبؤس بسبب العصابات التي ظهرت نتيجة المجاعات المنتشرة بعد الدمار الذي تسببه اقتراب كوكب نيبيرو من الأرض. وبما أن الأنوناكي السبعة جميعهم من بلاد الرافدين، كان اختيارهم لبغداد مدينة لهم، لتبدأ إعادة إعمار بغداد،”- أيعقل اني سأردد كلمة بغداد مرة أخرى؟ عبد الرحمن دخل في نوبة بكاء شديد، أما الحكيم أوميا فكان الوحيد الذي اختار بابل…”(صفحة٣٥٤). لكنَّ أمرا غريبا قد حدث لهم وهم يشرعون في مهمتهم شبه المستحيلة، وهو أن حُلماً غرائبياً راودهم فأثار استغرابهم، مما اضطرهم لتفسير هذا الحُلم المشترك، باعترافات كل منهم عن تاريخ حياته، فيروي كل منهم الحقبة التاريخية التي عاشها وتأثيرها النفسي والاجتماعي فيه. التحليل النفسي… يمكننا تفسير الحلم المشترك الذي راود الأنوناكي السبعة بأنه انعكاس ل”اللاوعي الجمعي”، وهو مفهوم نفسي يتجاوز حدود الفرد ليتصل بالخبرات الإنسانية المتراكمة. لقد أسس الطبيب النمساوي سيغموند فرويد نظرية اللاوعي بوصفه مستودعًا للذكريات والدوافع والرغبات المكبوتة في النفس البشرية، لكنه ركّز على التجربة الفردية. في المقابل، قدّم عالم النفس السويسري كارل يونغ مفهوماً أوسع وأعمق، حيث رأى أن الإنسان لا يختزن فقط تجاربه الشخصية، بل يحمل في داخله تراثًا نفسيًا مشتركًا للبشرية جمعاء، يُختزن فيما يُعرف بـ”اللاوعي الجمعي”. وفي هذا السياق، يمكننا النظر إلى فصل “الاعترافات” في الرواية على أنه عملية تطهير نفسي جماعي، عبّر فيها كل من الشخصيات السبع عن تجاربه التاريخية والاجتماعية والنفسية، التي تعكس حقباً مختلفة من تاريخ العراق. لقد كان هذا الاعتراف بمثابة تفريغ للطاقة النفسية المتراكمة، أو ما يمكن تسميته بتنظيف “الهالة الطاقية”، بما تحمله من رواسب اللاوعي الجمعي، تمهيدًا للمرحلة التالية من الرواية: بناء بغداد واستعادة مجدها الحضاري. رسالة الرواية… كما يُعدّ الأدب وعاءً للفكر، فإن حبكة الرواية تمثل الإطار الذي يُحتوى فيه هذا الفكر، وتُحمل من خلاله الرسائل. تحمل رواية “الأنوناكي” في طياتها عدة رسائل جوهرية، لعل أبرزها سعي الكاتبة لتصحيح المفاهيم التاريخية المغلوطة التي ترسخت في الوعي الجمعي، فأعادت من خلال السرد الدقيق إحياء الوقائع كما يجب أن تُروى. إنها دعوة صريحة للأجيال إلى دراسة التاريخ بتمعن، والتعلّم منه، لأن إهماله كثيرًا ما يكون السبب في سقوط الحضارات. وثّقت سامي كذلك تفاصيل الواقع المعاصر زمن كتابة الرواية، ولم تغفل ما أفرزه التقدم العلمي والتكنولوجي من تحديات وسلبيات، كما امتد بصرها إلى المستقبل، فصاغت عبر شخصياتها حلمها بإعادة بناء العراق، واستعادة مجد بغداد لتغدو منارة حضارية جديدة تلمع كما كانت في السابق، حاضرة تُشعّ على العالم. وكان للمرأة حضورٌ لافتٌ في الرواية، إذ منحت الكاتبة البطولة المطلقة لشخصية “هيفاته”، ابنة الملكة الأسطورية سميرة أميس. وقد اختارت هذا النموذج لتؤكد أن المرأة، ومنذ أقدم العصور، كانت فاعلة في الشأن العام، ومحطّ احترام وتقدير، وتولت مناصب مؤثرة في السياسة والحرب على حد سواء. وقد استخدمت هيفاته أدوات العصر: المعرفة، والعلم، والتكنولوجيا، لبناء بغداد الجديدة، مستندة إلى العدالة والرحمة وإرساء القانون بما يناسب زمن المهمة الجديدة. لقد شكّلت مركبتها الفضائية قاعدة انطلاق حضاري، في سعي لخلق يوتوبيا جديدة، تستلهم من جنة عدن، وجمهورية أفلاطون، واشتراكية ماركس، والفردوس المفقود لدى ملتون، كلها أنماط تعيد إنتاج النموذج الأول للجنة التي تنشدها الإنسانية. إن هذه الهواجس الوجودية والثقافية، كانت حاضرة في المخيال الجمعي منذ بدء الخليقة، ولا تزال تجد طريقها إلى وجدان الأدباء والمبدعين. كلمة أخيرة… ما يفصلنا عن التاريخ ليس البعد الزمني فحسب، بل البُعد الثقافي. لقد احتضنت هذه الأرض كل من مرّ عليها، وستظل تتسع لكل من يأتي. وحضورنا الحقيقي في الزمن، لا يُقاس بما نستنشق من هواء، بل بما نترك من أثر.
قراءة في رواية ” الأنوناكي” المؤلف : ميادة سامي
مجلة الجمان
https://m-aljuman.com
قراءة في رواية ” الأنوناكي” المؤلف : ميادة سامي
“ما كان يجب أن أمتلك كل هذا الوعي طالما أنني اعيش في عالم مبني على سلام مهترئ” كافكا. عنوان الرواية… “الأنوناكي”: مفردة سومرية حيكت حولها أسطورة مفادها أن الأنوناكي هم مخلوقات فضائية جاؤوا من كوكب “نيبيرو” وهو كوكب غير حقيقي، ولا يوجد ما يثبت وجوده، وبحسب الأسطورة فإن هذه المخلوقات كان لها دور في تطوير الجنس البشري لتسخيرهم للعمل في مناجم الذهب، المعدن الذي يحتاجونه لرتق غلاف كوكبهم الجوي نتيجة تلوث بيئي، فأصبح كوكب نيبيرو عرضة للإشعاعات الكونية. كل ما ذكر انفاً جاء به “زكريا ستيشن” وهو كاتب أمريكي من أصل روسي متوفى سنة ٢٠١٠. ليأتي الباحث العراقي “خزعل الماجدي” المتخصص في الميثولوجيا وتاريخ الأديان ليدحض كل ما أشاعه زكريا استيشن، حيث تطرق لمعنى كلمة الأنوناكي في القاموس السومري، وهي أن الأنوناكي تعني عند السومريين مجموعة الآلهة التي تظهر في أساطير السومريين والأكديين والآشوريين والبابليين، وتعني الذين هبطوا من السماء إلى الأرض، وقد يعني الاسم (ذرية الأمير) لأن الإله آن كان أكبر آلهة الأنوناكي، هو سيد وأمير الآلهة، فهم آن وأبناؤه، وهم الآلهة المتحكمون بمصائر البشر والكون، إذن هي معتقدات دينية في ميثولوجيا (علم الأساطير) السومرية. بهذا تكون ميادة سامي، اتخذت عنواناً مثيراً للجدل ليكون ثريا روايتها، وهذا يحسب لها، فقد أطلقت اسم الأنوناكي على أبطال الرواية السبعة، وذلك لدورهم الاساسي في إعادة الحياة للأرض بعد دمارها كلياً، بسبب اقتراب كوكب نيبيرو من الأرض ليتسبب بكل هذا الدمار الشامل. صورة الغلاف… صورة للملكة الآشورية سميرة اميس “سمورا مات” إشارة أخرى بأن الرواية تاريخية بملامح أسطورية، فهي أي سميرة اميس شخصية تاريخية حيكت حولها الأساطير. آلية السرد… تستهل المؤلفة روايتها بمشهد غرائبي يستدرج القارئ للدخول إلى عالم مثير، هذا المشهد مع الإهداء يفصح عن مكنونات مشاعر الحب للوطن الذي يَعمرُ به قلب سامي وقلوب أمثالها من العراقيين الشرفاء المحبين لوطنهم. تبدأ سامي سرد أحداث روايتها بقصة حب، على الرغم من أن الرواية لا تُعد من القصص الرومانسية، بل تتعدد تصنيفاتها بين التاريخية والأسطورية والملحمية والخيال العلمي، مع هذا نرى الحب قد تسرب كالماء بين سطور الرواية. كسّرت سامي أصفاد الزمن بحجارة الجرأة والإقدام، مما منحها مرونة التلاعب بالأحداث والسيطرة التامة على مجرياتها، خيالها الخصب صَوّر مشاهد مكثفة ليتلقاها القارئ بكل سلاسة وشغف وبلغة سردية بليغة. الثيمة الأسطورية… الرواية تحاكي أسطورة الأنوناكي في بنيتها الحكائية، من خلال مخلوقات فضائية متطورة تخطف سبعة أشخاص من سكان الأرض يشتركون في صفات تؤهلهم للقيام بمهمة على كوكب آخر، هؤلاء الأشخاص لا يتم اختيارهم من حقبة تاريخية واحدة، بل من حقب متعددة من تاريخ العراق. الأشخاص هم هيفاته ابنة الملكة سميرة اميس، والحكيم اوميا وهم من الإمبراطورية الآشورية، محمد بن يحيى وعبد الرحمن من عصر الخلافة العباسية، جلال وكمال وسامر من العصر الحديث والمعاصر. أطلق الخاطفون مفردة الأنوناكي على كل فرد منهم وبتسلسل رقمي من ١- ٧. تنتهي مهمة هؤلاء الأنوناكي بينما يكتشفون أن سكان هذا الكوكب من المخلوقات الغريبة قد اختفوا، ولم يبق أحد في الكوكب غيرهم، لتبدأ رحلة البحث عن كيفية العودة إلى الأرض، فيكتشفوا أن المخلوقات تركتهم بسبب قدوم كوكب نيبيرو نحو كوكبهم، لكنهم لم يتركوهم بلا وسيلة للعودة إلى الأرض، فيهتدوا لمركبة فضائية أُعدت لأجلهم. كان هبوط الأنوناكي السبعة، في زمن المستقبل، وقد وجدوا الأرض قد دمرت بشكل كامل، بلا عمران ولا تكنولوجيا، فقط قرى متفرقة هنا وهناك، وقد سيطر الخوف والبؤس بسبب العصابات التي ظهرت نتيجة المجاعات المنتشرة بعد الدمار الذي تسببه اقتراب كوكب نيبيرو من الأرض. وبما أن الأنوناكي السبعة جميعهم من بلاد الرافدين، كان اختيارهم لبغداد مدينة لهم، لتبدأ إعادة إعمار بغداد،”- أيعقل اني سأردد كلمة بغداد مرة أخرى؟ عبد الرحمن دخل في نوبة بكاء شديد، أما الحكيم أوميا فكان الوحيد الذي اختار بابل…”(صفحة٣٥٤). لكنَّ أمرا غريبا قد حدث لهم وهم يشرعون في مهمتهم شبه المستحيلة، وهو أن حُلماً غرائبياً راودهم فأثار استغرابهم، مما اضطرهم لتفسير هذا الحُلم المشترك، باعترافات كل منهم عن تاريخ حياته، فيروي كل منهم الحقبة التاريخية التي عاشها وتأثيرها النفسي والاجتماعي فيه. التحليل النفسي… يمكننا تفسير الحلم المشترك الذي راود الأنوناكي السبعة بأنه انعكاس ل”اللاوعي الجمعي”، وهو مفهوم نفسي يتجاوز حدود الفرد ليتصل بالخبرات الإنسانية المتراكمة. لقد أسس الطبيب النمساوي سيغموند فرويد نظرية اللاوعي بوصفه مستودعًا للذكريات والدوافع والرغبات المكبوتة في النفس البشرية، لكنه ركّز على التجربة الفردية. في المقابل، قدّم عالم النفس السويسري كارل يونغ مفهوماً أوسع وأعمق، حيث رأى أن الإنسان لا يختزن فقط تجاربه الشخصية، بل يحمل في داخله تراثًا نفسيًا مشتركًا للبشرية جمعاء، يُختزن فيما يُعرف بـ”اللاوعي الجمعي”. وفي هذا السياق، يمكننا النظر إلى فصل “الاعترافات” في الرواية على أنه عملية تطهير نفسي جماعي، عبّر فيها كل من الشخصيات السبع عن تجاربه التاريخية والاجتماعية والنفسية، التي تعكس حقباً مختلفة من تاريخ العراق. لقد كان هذا الاعتراف بمثابة تفريغ للطاقة النفسية المتراكمة، أو ما يمكن تسميته بتنظيف “الهالة الطاقية”، بما تحمله من رواسب اللاوعي الجمعي، تمهيدًا للمرحلة التالية من الرواية: بناء بغداد واستعادة مجدها الحضاري. رسالة الرواية… كما يُعدّ الأدب وعاءً للفكر، فإن حبكة الرواية تمثل الإطار الذي يُحتوى فيه هذا الفكر، وتُحمل من خلاله الرسائل. تحمل رواية “الأنوناكي” في طياتها عدة رسائل جوهرية، لعل أبرزها سعي الكاتبة لتصحيح المفاهيم التاريخية المغلوطة التي ترسخت في الوعي الجمعي، فأعادت من خلال السرد الدقيق إحياء الوقائع كما يجب أن تُروى. إنها دعوة صريحة للأجيال إلى دراسة التاريخ بتمعن، والتعلّم منه، لأن إهماله كثيرًا ما يكون السبب في سقوط الحضارات. وثّقت سامي كذلك تفاصيل الواقع المعاصر زمن كتابة الرواية، ولم تغفل ما أفرزه التقدم العلمي والتكنولوجي من تحديات وسلبيات، كما امتد بصرها إلى المستقبل، فصاغت عبر شخصياتها حلمها بإعادة بناء العراق، واستعادة مجد بغداد لتغدو منارة حضارية جديدة تلمع كما كانت في السابق، حاضرة تُشعّ على العالم. وكان للمرأة حضورٌ لافتٌ في الرواية، إذ منحت الكاتبة البطولة المطلقة لشخصية “هيفاته”، ابنة الملكة الأسطورية سميرة أميس. وقد اختارت هذا النموذج لتؤكد أن المرأة، ومنذ أقدم العصور، كانت فاعلة في الشأن العام، ومحطّ احترام وتقدير، وتولت مناصب مؤثرة في السياسة والحرب على حد سواء. وقد استخدمت هيفاته أدوات العصر: المعرفة، والعلم، والتكنولوجيا، لبناء بغداد الجديدة، مستندة إلى العدالة والرحمة وإرساء القانون بما يناسب زمن المهمة الجديدة. لقد شكّلت مركبتها الفضائية قاعدة انطلاق حضاري، في سعي لخلق يوتوبيا جديدة، تستلهم من جنة عدن، وجمهورية أفلاطون، واشتراكية ماركس، والفردوس المفقود لدى ملتون، كلها أنماط تعيد إنتاج النموذج الأول للجنة التي تنشدها الإنسانية. إن هذه الهواجس الوجودية والثقافية، كانت حاضرة في المخيال الجمعي منذ بدء الخليقة، ولا تزال تجد طريقها إلى وجدان الأدباء والمبدعين. كلمة أخيرة… ما يفصلنا عن التاريخ ليس البعد الزمني فحسب، بل البُعد الثقافي. لقد احتضنت هذه الأرض كل من مرّ عليها، وستظل تتسع لكل من يأتي. وحضورنا الحقيقي في الزمن، لا يُقاس بما نستنشق من هواء، بل بما نترك من أثر.
فرح تركي العامري
حیدر الأدیب
عدنان الصائغ
التعليقات