مجموعة (الليلة الأولى بعد الالف) القصصية لايناس البدران

صورة الكاتب
بقلم: زيد الشهيد
التاريخ: 23 نوفمبر 2025 عدد المشاهدات: 583
مجموعة (الليلة الأولى بعد الالف) القصصية لايناس البدران

قراءة نقدية

……..



تتشكَّل النصوصُ النسوية السائدة في الساحة التدوينية الأدبية العراقية والعربية مساراً لا يتعدى عرض الحال؛ وتتجسَّد تعبيرات عن رؤىً وهموم وهواجس نفسية تدور في فلكها المرأة الكاتبة حتى وإن جاءت هذه النصوص أو تلك التعبيرات إبداعاً وعرض محصلة تعاملها مع الواقع الذي انبثق منه. قليلات هنَّ اللائي تجاوزن الكتابة عن الهموم الذاتية إلى العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وحسبنا أن مردَّ ذلك يعود إلى ما تعانيه المرأة في هذه البلدان من حيف وعسف، وما تلاقيه من تهميش وتحطيم مقصودين لشخصيتها التي يُفترض أن تتماثل مع شخصية الرجل في أداء المهمات ومواجهة الحياة مثلما يُفترض أن تنال الحرية في التعبير فلا تُكبح، ولا تُصد لمجرد طرح رأي أو إشهار فكرة. كاتبتنا العربية مشغولة على الدوام في طرح التعامل غير المتكافئ بين القطبين الإنسانيين: الرجل والمرأة؛ أو الذكر والأنثى.. ففي الوقت الذي ينظر الرجل إلى المرأة على أنها أنثى تجسد المفاتن التي تمتعه وتثير فيه مخياليته تبقى المرأة عاجزة عن الدفاع عن نفسها حتى وهي تمسك القلم سلاحاً يراد له أن يوجَّه لتفكيك منظومات العسف الرجولي بغية تحقيق مبدأ التكافؤ المفترض في كافة ميادين رسالاته.

وإيناس البدران في مجمل نصوصها السردية التي احتوتها مجموعة (الليلة الأولى بعد الألف) جعلت نساءها ينتمين إلى أولئك المستلبات اجتماعياً وعاطفياً. تشاركهن هواجسِهن وخلجاتِهن، ضعفهن وكبريائهن، بحر ارتحالاتهن وشواطئ انكساراتهن. تتماهى معهن في المعاناة والقول فتبدو كما لو كانت تكتب سيرة ذاتية مستخلصة من حياة شخصياتها أو يوميات هي من صلب معاناة وألم مَن تصاحبهن في خطوهن اليومي فتفتح آفاقا رحبة للتأويل وتدفع المتلقي إلى التعاطف خلال مجريات القراءة.. فكل شخصية من شخصيات نصوصها تقدِّم نفسَها الأنثى التي دائما ما تقف إزاء جبروت يشكَّلَ هيمنةً سرمدية. هي تعي ذلك لكنها تتقهقر خيبةً يوم تفكِّر في تجاوزه، وتتراجع مرتعشة إن همَّت بمواجهته. إنَّها تدخل إطار الإشكالية المتمثلة بعلاقة المرأة بالرجل أو الرجل بالمرأة. تلك العلاقة التي تتبدّى في مجرياتها حالة الاستلاب، وتتكشف أبجدية تراجع الأنثى في أحقيتها في المساواة أو تعادلها في تبادل المشاعر.. نص (مناديل العنبر) يعرض الرجل مهيمنا والاستلاب ماثلاً ليس بسلوك يمارسه هو فقط بل بخضوع جارف وشعور بضعف كاسح تمارسه المرأة/ الأنثى في احتراقها العاطفي . تتمثل المعادلة في تراجع شخصيتها وهي تنظر إلى رئيس عملها في معمل صناعة المناديل الذي تعمل فيه يتنقل من فتاة (ما أن يقطف ثمار عواطفها حتى يلفظها) متجهاً صوب أخرى. وإذ هي تتمناه ويصبح لها تراه في الزمن القادم يهجرها ليدخل رياض فتاة تليها، لها مواصفات تغايرها؛ وهي الصاغرة، المتألمة، المنسحقة… هذا الانسحاق يتكرس أيضاً في تلك المرأة التي فرض عليها الاقتران برجل لا تريده ولكن الأب يبغيه ويفضله فتستحيل جثة تعود إلى الحياة لتبحث عمّا يشفيها من غثيان يوقظها من رقدة الموت. تلف الأماكن وتبحث في منابت الدروب عمن ينتشلها من فيض الذكرى التي تعود إليها عارضة ذهاب الحبيب لفتاة غيرها.. انسحاق يمحق رغبة المرأة في الاختيار وفي أن تكون هي صاحبة الرأي ومتخذة القرار (نص: غثيان)، وهي نفسها الأنثى وإن اختلفت في القوام التي (( همّت أنْ تهمس له يوماً أنه أفضل شيء حصل لها))ص38 ولكن (( لحسن الحظ أنها لم تفعل وإلا كان في ذلك مجافاة صارخة للحقيقة ، ذلك أنه حرص طوال الوقت وعبر جميع أفعاله أن يشكِّل خيبةَ أمل إضافية في حياتها)) ص38 (نص: النمرة).. وحتى ذلك الذي كتبت له رسالةٌ (نص: وجها القمر) وأباحت له بخيبتها منه وحزنها على ما فقدته من أيام تتلظى على جمر جحوده ولا مبالاته تجاهها وبدا لنا كمتلقين انها غايرت السائد من سلوك المسروقات الحقوق سنكتشف في آخر عبارة من رسالتها بعد أن طوتها (( بعناية داخل الظرف ووسدتها المنضدة المتداعية بانتظار مَن يحملها إليه )) ص52 أنَّه من عداد الأموات، وأن كل ما تكتبه ستضعه على قبره… هو البوح إذاً لما بعد الحياة لخشية من بطش ما قبلها.. هكذا هي الأنثى في واقع متجاف. وهكذا هي تبوح كما لو كانت ما زالت تخشاه ، لكنها تترحَّم عليه بغفرانها له وتأنيبها لنفسها:(( اطمئن قد غفرت لك كل خطاياك ومنذ أمدٍ بعيد، لكنني لم اغفرها لنفسي، لم اغفر لها ضعفها ومشاعر شتى تناوبتها، التبس عليَّ فهمها)) ص51؛ بينما تستحيل (هي الأنثى) راوية لترويض ذائقة الرجل وتوجيه سفينة عاطفته نحو مرافىء تضئيل الجموح وتقليل نزوع الانتقام، متحاملةً على آلامها ومعاناتها.. تستحيل شهرزاد لمستمع اسمه شهريار، متحدثة بأسلوب ألف ليلة وليلة في مسار الحكاية، فنسمع عبارة (يا مولاي)، و(بلغني أيها الملك السعيد)، و (سوف يأتي في آخر العصر والأوان)، إضافة إلى (السيف)، و(السوط)، و(المارد) ، و(السند والهند)، و(المخدع)، و( البدر المنير). صور تترى من صور الاستلاب والشعور بالضآلة في حومة الانسحاقات والهزائم الكبرى.

شفرة السعادة.. الزواج

في مجتمعاتنا الشرقية، والعربية على وجه التحديد تتمثل موضوعة الزواج ديدناً يشغل الوالدين، وهدفاً يدخل في عداد الأمنيات. ذلك أنَّه الجوهرة التي تقدم لابنتهما لتهبها الحياة التي تعني الخلود. وجل ما يخشاه الوالدان تجاه ابنتهما هو ارتماؤها في بئر العنوسة أو ضياعها في صحراء اللااقتران برجل، لهذا يرتكب الكثيرون خطيئة تلقف الرجل الأول لقادم للاقتران بها كما لو كان صيداً ثميناً دون التمعن بسلوكه وتصرفاته ، باهتمامه ومراميه.( عريس تتمنّاه أيُّ بنت، تأني لمناقشة الذات أم تريدين أنْ تَعنسي)ص87.. هو ناقوس التهديد الذي تطرقه الأم عادة في كبح جماح رفض القادم أو طلب الوقت والتأني لمناقشة الذات إن كان يتوافق مع الابنة أم لا. تتمتم ( لم يخيفوننا بالعنوسة حتى لكأنها أفظع ما يمكن أن يحدث لفتاة؟) ص88. والسؤال لا تفوه به لأمها، ولا تكتبه على صفحات الجرائد أو أعمدة المجلات أو في حوارية تحصل في برنامج إذاعي أو تلفازي، إنما هو الذي يتسلل في مسار روحها بلا صوت ولا صدى. ذلك أنها ترضخ لقول الأم ورغبة الأب.. وتتزوج.

وحتى الزوج الذي أريد له أنْ يكون شريكاً في الحياة لا يحق لها مواجهته. فالمواجهة لديه لا تعني طرح الرأي بعيداً عن طعن الشخصية، إنما توجيه سهام لتهشيم كرامته، وتمزيق كبريائه، وتحطيم قلعة الاعتداد الذي هو لافتة لهيمنة كزعيم يقود أمّة أو كشيخ منبر غير مسموح في مقاطعته أو مناقشته.. مرة قالت له متجرئة: )) لم أنتَ بوجهين؟.. بهت وسط قناع شمعي. صار بعدها صعباً على أي منهما النظر في وجه الآخر.)) ص97. ومؤكداً لم يعد يطيقها، فقد اخترقت حاجز الهيمنة بالنسبة إليه أو ارتقت سلم الوصول إلى صومعة التعالي. والاثنان بمثابة تابو لا يجوز اختراق أو إدراك تخومهما بينما نواميسه تقر بأنَّ عليها أنْ (( تخبّئ الأسرار صغيرها وكبيرها أشواكاً في القلب وزوايا العقل.)) ص97.. هي لا تحب حياتها (( لا أحب حياتي.. لكنني سأعيشها ))ص66

القص والشعرية

لا مغايرة ولا تطرف حين يشير وولتر ألن كروائي ينطلق من الفضاء الثقافي الكندي إلى أنَّ (( كاتب القصة القصيرة هو شاعر غنائي ينثر ))(1) عبر لغة (( تنهض من حيز الشعر والنثر معا) (2) برأي د. فاضل عبود التميمي. وحين يكون النثر غنائياً يتحتَّم عليه خلق الدهشة عبر تفجير العاطفة الكامنة في الأعماق. بل هو منبت إغراء للذات القارئة التي تجد نفسها تنجذب مع خطو الكلمات في فيض العبارات ركوباً في زورق الصورة التي تتشكل مع تنامي الحدث حين يتعطر بأريج الشعرية.. ومن يتتبع مسار القصة القصيرة سيجد: ألأكثرها تعطراً بالشعرية أكثرها تأثيراً في المتلقي، مثلما يجدها (( ثمرة لحظة معينة واحدة من الزمن، ثمرة حدث معين لوحده، أو إدراك حي محدد واحد)) (3). فهي تقدم صورة من واقع قبض عليها الناص، ثم شرع بتقديمها للمتلقي الذي سيستقبلها تذوقاً ليعيد صناعتها وفق مخيلته وفاعلية دواخله، خالقاً متوالية من التلقي، التصنيع، والتقديم. تحسن إيناس البدران إيصال نصها ذوقياً عبر لغة سردية تتعطر بالشعرية وتتراغى بغنائية تغري لذاذة المتلقي وتجعله يستعذب سياحته داخل جسد النص، متعاطفاً مع المستَلَبات المحرومات، ومتماهياً مع انفعالاتهن وهواجسهن المحتدمة. فلا تجد نصاً من نصوص مجموعتها الخمسة عشر نأى عن الشعرية في مسار السرد ما يجيز للقارئ الناقد الإشادة بأسلوبها، يساوره شعور أنَّها قادرة على تقديم الأفضل في القادمات من الأيام، والآتيات من النصوص خصوصاً إذا فكرت في خوض تجربة كتابة الرواية.

 

ــــــــــــــــ

(1) القصة القصيرة أصولها وخلفياتها- ولتر ألن- د.محسن جاسم الموسوي- الثقافة الأجنبية- العدد الأول ، السنة الخامسة-1985-ص7

(2) اضاءات سردية – د. فاضل عبود التميمي – المطبعة المركزية في جامعة ديالى. سنة 2010 – ص4

(3) القصة القصيرة أصولها وخلفياتها –ص7

 

عن الکاتب / الکاتبة

زيد الشهيد
زيد الشهيد
الشاعر والناقد / العراق

مقالات أخرى للكاتب

لا توجد مقالات أخرى لهذا الكاتب.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


مجموعة (الليلة الأولى بعد الالف) القصصية لايناس البدران

بقلم: زيد الشهيد | التاريخ: 23 نوفمبر 2025

التصنيف: الأدب

قراءة نقدية

……..



تتشكَّل النصوصُ النسوية السائدة في الساحة التدوينية الأدبية العراقية والعربية مساراً لا يتعدى عرض الحال؛ وتتجسَّد تعبيرات عن رؤىً وهموم وهواجس نفسية تدور في فلكها المرأة الكاتبة حتى وإن جاءت هذه النصوص أو تلك التعبيرات إبداعاً وعرض محصلة تعاملها مع الواقع الذي انبثق منه. قليلات هنَّ اللائي تجاوزن الكتابة عن الهموم الذاتية إلى العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وحسبنا أن مردَّ ذلك يعود إلى ما تعانيه المرأة في هذه البلدان من حيف وعسف، وما تلاقيه من تهميش وتحطيم مقصودين لشخصيتها التي يُفترض أن تتماثل مع شخصية الرجل في أداء المهمات ومواجهة الحياة مثلما يُفترض أن تنال الحرية في التعبير فلا تُكبح، ولا تُصد لمجرد طرح رأي أو إشهار فكرة. كاتبتنا العربية مشغولة على الدوام في طرح التعامل غير المتكافئ بين القطبين الإنسانيين: الرجل والمرأة؛ أو الذكر والأنثى.. ففي الوقت الذي ينظر الرجل إلى المرأة على أنها أنثى تجسد المفاتن التي تمتعه وتثير فيه مخياليته تبقى المرأة عاجزة عن الدفاع عن نفسها حتى وهي تمسك القلم سلاحاً يراد له أن يوجَّه لتفكيك منظومات العسف الرجولي بغية تحقيق مبدأ التكافؤ المفترض في كافة ميادين رسالاته.

وإيناس البدران في مجمل نصوصها السردية التي احتوتها مجموعة (الليلة الأولى بعد الألف) جعلت نساءها ينتمين إلى أولئك المستلبات اجتماعياً وعاطفياً. تشاركهن هواجسِهن وخلجاتِهن، ضعفهن وكبريائهن، بحر ارتحالاتهن وشواطئ انكساراتهن. تتماهى معهن في المعاناة والقول فتبدو كما لو كانت تكتب سيرة ذاتية مستخلصة من حياة شخصياتها أو يوميات هي من صلب معاناة وألم مَن تصاحبهن في خطوهن اليومي فتفتح آفاقا رحبة للتأويل وتدفع المتلقي إلى التعاطف خلال مجريات القراءة.. فكل شخصية من شخصيات نصوصها تقدِّم نفسَها الأنثى التي دائما ما تقف إزاء جبروت يشكَّلَ هيمنةً سرمدية. هي تعي ذلك لكنها تتقهقر خيبةً يوم تفكِّر في تجاوزه، وتتراجع مرتعشة إن همَّت بمواجهته. إنَّها تدخل إطار الإشكالية المتمثلة بعلاقة المرأة بالرجل أو الرجل بالمرأة. تلك العلاقة التي تتبدّى في مجرياتها حالة الاستلاب، وتتكشف أبجدية تراجع الأنثى في أحقيتها في المساواة أو تعادلها في تبادل المشاعر.. نص (مناديل العنبر) يعرض الرجل مهيمنا والاستلاب ماثلاً ليس بسلوك يمارسه هو فقط بل بخضوع جارف وشعور بضعف كاسح تمارسه المرأة/ الأنثى في احتراقها العاطفي . تتمثل المعادلة في تراجع شخصيتها وهي تنظر إلى رئيس عملها في معمل صناعة المناديل الذي تعمل فيه يتنقل من فتاة (ما أن يقطف ثمار عواطفها حتى يلفظها) متجهاً صوب أخرى. وإذ هي تتمناه ويصبح لها تراه في الزمن القادم يهجرها ليدخل رياض فتاة تليها، لها مواصفات تغايرها؛ وهي الصاغرة، المتألمة، المنسحقة… هذا الانسحاق يتكرس أيضاً في تلك المرأة التي فرض عليها الاقتران برجل لا تريده ولكن الأب يبغيه ويفضله فتستحيل جثة تعود إلى الحياة لتبحث عمّا يشفيها من غثيان يوقظها من رقدة الموت. تلف الأماكن وتبحث في منابت الدروب عمن ينتشلها من فيض الذكرى التي تعود إليها عارضة ذهاب الحبيب لفتاة غيرها.. انسحاق يمحق رغبة المرأة في الاختيار وفي أن تكون هي صاحبة الرأي ومتخذة القرار (نص: غثيان)، وهي نفسها الأنثى وإن اختلفت في القوام التي (( همّت أنْ تهمس له يوماً أنه أفضل شيء حصل لها))ص38 ولكن (( لحسن الحظ أنها لم تفعل وإلا كان في ذلك مجافاة صارخة للحقيقة ، ذلك أنه حرص طوال الوقت وعبر جميع أفعاله أن يشكِّل خيبةَ أمل إضافية في حياتها)) ص38 (نص: النمرة).. وحتى ذلك الذي كتبت له رسالةٌ (نص: وجها القمر) وأباحت له بخيبتها منه وحزنها على ما فقدته من أيام تتلظى على جمر جحوده ولا مبالاته تجاهها وبدا لنا كمتلقين انها غايرت السائد من سلوك المسروقات الحقوق سنكتشف في آخر عبارة من رسالتها بعد أن طوتها (( بعناية داخل الظرف ووسدتها المنضدة المتداعية بانتظار مَن يحملها إليه )) ص52 أنَّه من عداد الأموات، وأن كل ما تكتبه ستضعه على قبره… هو البوح إذاً لما بعد الحياة لخشية من بطش ما قبلها.. هكذا هي الأنثى في واقع متجاف. وهكذا هي تبوح كما لو كانت ما زالت تخشاه ، لكنها تترحَّم عليه بغفرانها له وتأنيبها لنفسها:(( اطمئن قد غفرت لك كل خطاياك ومنذ أمدٍ بعيد، لكنني لم اغفرها لنفسي، لم اغفر لها ضعفها ومشاعر شتى تناوبتها، التبس عليَّ فهمها)) ص51؛ بينما تستحيل (هي الأنثى) راوية لترويض ذائقة الرجل وتوجيه سفينة عاطفته نحو مرافىء تضئيل الجموح وتقليل نزوع الانتقام، متحاملةً على آلامها ومعاناتها.. تستحيل شهرزاد لمستمع اسمه شهريار، متحدثة بأسلوب ألف ليلة وليلة في مسار الحكاية، فنسمع عبارة (يا مولاي)، و(بلغني أيها الملك السعيد)، و (سوف يأتي في آخر العصر والأوان)، إضافة إلى (السيف)، و(السوط)، و(المارد) ، و(السند والهند)، و(المخدع)، و( البدر المنير). صور تترى من صور الاستلاب والشعور بالضآلة في حومة الانسحاقات والهزائم الكبرى.

شفرة السعادة.. الزواج

في مجتمعاتنا الشرقية، والعربية على وجه التحديد تتمثل موضوعة الزواج ديدناً يشغل الوالدين، وهدفاً يدخل في عداد الأمنيات. ذلك أنَّه الجوهرة التي تقدم لابنتهما لتهبها الحياة التي تعني الخلود. وجل ما يخشاه الوالدان تجاه ابنتهما هو ارتماؤها في بئر العنوسة أو ضياعها في صحراء اللااقتران برجل، لهذا يرتكب الكثيرون خطيئة تلقف الرجل الأول لقادم للاقتران بها كما لو كان صيداً ثميناً دون التمعن بسلوكه وتصرفاته ، باهتمامه ومراميه.( عريس تتمنّاه أيُّ بنت، تأني لمناقشة الذات أم تريدين أنْ تَعنسي)ص87.. هو ناقوس التهديد الذي تطرقه الأم عادة في كبح جماح رفض القادم أو طلب الوقت والتأني لمناقشة الذات إن كان يتوافق مع الابنة أم لا. تتمتم ( لم يخيفوننا بالعنوسة حتى لكأنها أفظع ما يمكن أن يحدث لفتاة؟) ص88. والسؤال لا تفوه به لأمها، ولا تكتبه على صفحات الجرائد أو أعمدة المجلات أو في حوارية تحصل في برنامج إذاعي أو تلفازي، إنما هو الذي يتسلل في مسار روحها بلا صوت ولا صدى. ذلك أنها ترضخ لقول الأم ورغبة الأب.. وتتزوج.

وحتى الزوج الذي أريد له أنْ يكون شريكاً في الحياة لا يحق لها مواجهته. فالمواجهة لديه لا تعني طرح الرأي بعيداً عن طعن الشخصية، إنما توجيه سهام لتهشيم كرامته، وتمزيق كبريائه، وتحطيم قلعة الاعتداد الذي هو لافتة لهيمنة كزعيم يقود أمّة أو كشيخ منبر غير مسموح في مقاطعته أو مناقشته.. مرة قالت له متجرئة: )) لم أنتَ بوجهين؟.. بهت وسط قناع شمعي. صار بعدها صعباً على أي منهما النظر في وجه الآخر.)) ص97. ومؤكداً لم يعد يطيقها، فقد اخترقت حاجز الهيمنة بالنسبة إليه أو ارتقت سلم الوصول إلى صومعة التعالي. والاثنان بمثابة تابو لا يجوز اختراق أو إدراك تخومهما بينما نواميسه تقر بأنَّ عليها أنْ (( تخبّئ الأسرار صغيرها وكبيرها أشواكاً في القلب وزوايا العقل.)) ص97.. هي لا تحب حياتها (( لا أحب حياتي.. لكنني سأعيشها ))ص66

القص والشعرية

لا مغايرة ولا تطرف حين يشير وولتر ألن كروائي ينطلق من الفضاء الثقافي الكندي إلى أنَّ (( كاتب القصة القصيرة هو شاعر غنائي ينثر ))(1) عبر لغة (( تنهض من حيز الشعر والنثر معا) (2) برأي د. فاضل عبود التميمي. وحين يكون النثر غنائياً يتحتَّم عليه خلق الدهشة عبر تفجير العاطفة الكامنة في الأعماق. بل هو منبت إغراء للذات القارئة التي تجد نفسها تنجذب مع خطو الكلمات في فيض العبارات ركوباً في زورق الصورة التي تتشكل مع تنامي الحدث حين يتعطر بأريج الشعرية.. ومن يتتبع مسار القصة القصيرة سيجد: ألأكثرها تعطراً بالشعرية أكثرها تأثيراً في المتلقي، مثلما يجدها (( ثمرة لحظة معينة واحدة من الزمن، ثمرة حدث معين لوحده، أو إدراك حي محدد واحد)) (3). فهي تقدم صورة من واقع قبض عليها الناص، ثم شرع بتقديمها للمتلقي الذي سيستقبلها تذوقاً ليعيد صناعتها وفق مخيلته وفاعلية دواخله، خالقاً متوالية من التلقي، التصنيع، والتقديم. تحسن إيناس البدران إيصال نصها ذوقياً عبر لغة سردية تتعطر بالشعرية وتتراغى بغنائية تغري لذاذة المتلقي وتجعله يستعذب سياحته داخل جسد النص، متعاطفاً مع المستَلَبات المحرومات، ومتماهياً مع انفعالاتهن وهواجسهن المحتدمة. فلا تجد نصاً من نصوص مجموعتها الخمسة عشر نأى عن الشعرية في مسار السرد ما يجيز للقارئ الناقد الإشادة بأسلوبها، يساوره شعور أنَّها قادرة على تقديم الأفضل في القادمات من الأيام، والآتيات من النصوص خصوصاً إذا فكرت في خوض تجربة كتابة الرواية.

 

ــــــــــــــــ

(1) القصة القصيرة أصولها وخلفياتها- ولتر ألن- د.محسن جاسم الموسوي- الثقافة الأجنبية- العدد الأول ، السنة الخامسة-1985-ص7

(2) اضاءات سردية – د. فاضل عبود التميمي – المطبعة المركزية في جامعة ديالى. سنة 2010 – ص4

(3) القصة القصيرة أصولها وخلفياتها –ص7