“خزائن الماضي و أدراج المستقبل” قراءة لرواية ” ملك اللصوص” لفائف إيونوس السوري ” للكاتب السوري الأستاذ تيسير خلف
عندما يلحّ الماضي ليخرجَ من عنق زجاجةٍ معتّقة من خزائن التاريخ المغبّرة بفعلِ تعاقب الأزمان على روحِ وعقلِ باحثٍ وأديب، علّ فيها من العِبر مايمهّد لحقبةٍ تخصّنا، خالية من الصّراعات لأمّةٍ تستحقّ السّلام والطُمأنينة والحياة بعد سنواتٍ دموية طويلة، فما أشبهَ اليومَ بالأمس البعيد! *الموت وروائحه النّفاذة مازالت تغلّف تلك السطور والوثائق التي حوّلها الأستاذ تيسير بمهارتهِ المعتادة إلى رواية نابضة بالروح، خارجة من وثائق التاريخ، محمّلة بالعِبر لكل من يعتبر… فالوصول للمُلك أمرْ والحفاظ عليه أمر آخر، هذا مايقوله لنا التاريخ القديم، فأيونوس الأفامي السوري، ذلك الكاهن الذي وصل بثورته إلى سدّة الحكم يقدّم لنا -وعن طريق رواية تعتمد على الوثائق والتخييل- تجربة حكم استمرت لأربع سنوات “المسماة بثورة العبيد”، أريق بين صفحاتها الكثير من الدماء وذرفت على أعتابها دموع كثيرة، هذه حال كل الصراعات ومهما كانت مسمياتها ومبرراتها وموجباتها، تزهق الأرواح بالمجان ولا تكاد تميّز أنصال السيوف بين أنواع البشر،… وما أشبه الماضي البعيد بالحاضر القريب وربما بالمستقبل فصراعات البشر لاتتوقف وأنهارالدماء مازالت تزهق على مذبح الحياة… ★ملك اللصوص “لفائف إيونوس السوري” رواية للكاتب الأستاذ تيسير خلف تقع في “٢٢٤ صفحة” بلغة مميزة دافقة محمّلة بكمٍّ كبيرٍ من المعلومات والشخوص الناضحةبمعظمها بالعواطف الإنسانيّة والتي بعضها متخيل وبعضها الآخر حقيقي، مقسّمة إلى عشرة فصول معنونة، تسرد حياة بطلها الملك السّوري إيونوس او أنطيخوس كما أسمته “الرّبة أترعتا” في أحد تجلياته والتي أقدم بعدها على تخوم ثورته التي أجلسته على الكرسيّ. *بدأت الرواية بسردِ مسيرة حياته منذ الولادة، عن طريق لفائفَ تحكي قصّته المثيرة في أفاميا القديمة… كيف تم تحويل تلك اللفائف إلى رواية بشخوص نابضة بالحياة وأمكنة وأزمان نازفة محمّلة بالصّراعات الدامية على صوتِ طبول الحروب العبثيّة وبطون الجوعى والمقهورين، والتي ابتدأت بطلبات محقّة من حرية للعبيد المقهورين، وحفظٍ للكرامات، وتوزيعٍ عادل للخيرات والمؤن والأرزاق، وانتهت بموتِ الحلم بالعدالة في صراعاتٍ عبثيّة وسلبٍ ونهبٍ وتنكيل، وقتلٍ وتعذيب؟ ★اختار الاستاذ تيسير مدخلاً عبقرياً لروايته، حيث يقول في مطلعها: “في أفاميا القديمة حيث وُلد الفيلسوف والفلكي والمؤرخ السوريّ الشّهير “بوسيدونيوس”، عاش رجلٌ معمّرٌ غريب الأطوار وحيداً في منزلٍ صغير قرب بوابة لاريسا، يخرج في بعض الأيام صباحاً متوكئاً على عصاه الطويلة، ويتّجه صوب نهر أورونتس العاصي، حيث يمضي جلّ وقته قرب شجرة دردارٍ معمّرة، وفي المساء، يعود إلى بيتهِ من دون أن يكلّم أحداً…” ” وماهذا العجوز إلا إيونوس نفسه واللّفائف هي قصته ” *الدستور مابين التلميح والتصريح والمباشرة:
______________________________ اعتمدَ الكاتب في سرده لأحداثِ الجزء الثالث من روايته، والذي خصصه للجلوس على العرش، بمساعدةِ أذرعه التي اختارها من محاربين وزوجة وعبيد أُعتقوا على التلميح أحياناً والتصريح أحايين أخرى، لأهمية وجود دستور عادل وقوي لحفظ ودوام الحكم لأي مملكة والابتعاد عن الموروثات والطقوس والأديان الكهنوتية، وفي ذلك تلميح يقبلهُ واقعنا ويفهمه قارئنا… فما تلك الوريقات التي نهت عن أكل السمك والتي فهمها البعض دون تبصّر وشكّلوا على إثرها”عُصبة السّمك المقدّس”وبدؤوا بمحاسبة المخالفين بأقصى العقوبات، على الرغم من الجوع الذي كان أشد فتكاً، إلا مثال وعبرة، ومن ثم انشقاقٌ آخر لتحريم أكل السمك والحمام أيضاً، فهاهم قد اهتمّوا بالقشور وتركوا المملكة بجياعها ولصوصها وقتلاها، فزاد الظلم والقهر والموت والتنكيل والسّرقات، وتفشّت الجريمة، وانتشرت الفواحش والأمراض ونقصت الأغلال، ولم يعد أحد يهتم بزراعة ولا بصناعة، فعم الخراب وأُسقطت المملكة بيدها قبل سقوطها الحقيقي على أيدي أعداءها بعد حكمٍ استمرّ أربع سنوات، وهذا بسبب التفرّق والشرذمة والخلافات، والابتعاد عن المحبّة والألفة وتطبيق العدالة التي كانت مهمّة للإستمرارية، ولن ننسى أن روما أيضاً والتي كانت غارقة بالفوضى والظلم لم تكن بحالٍ أفضل، فغياب العدالة والتوزيع المحقّ للثروات والمحاكمة والمحاسبة ينشر الفوضى ويزيد الجريمة والتي تؤدي بدورها لانتشار الرذائل فهذا التّرف الذي كان راسخاً ومسيطراً في القصور، والظلم للعبيد ماهو إلا مثالٌ لم يتّعظ منه المنتصر فوقع في فخّ السلطة وسطوتها، وسقط كما سقطتت ممالك غيره…
كما واختتم أحداث روايته في ذات الكوخ، وهذه الطّريقة السينمائيّة في المقدّمة والخاتمة جعلت من هذا العمل الرّوائي وعلى مدار صفحاته توثيقاً لايخلو من خيال ولا يبتعد عن الواقع، فمن هو هذا الملك وكيف كانت مسيرة حياته ابتداءً من ولادته بعينين متغايرتين تثيران حفيظة كل من يراه، ومروراً بطفولة غريبة عند مربية تدعى “شمش” قد لاحظت اختلافه عن أقرانه وكأنه يمتلك نزعة الكهنوتية منذ الصغر، ليصار إلى وضعهِ ونذره لخدمة الآلهة وتحضيره للكهنوتية… وهل نجح مسعى رسم طريقة حياته؟ هل أفلح بأن يكون كاهناً مقرباً من” الرّبة أترعتا” والتي كانت ترفعه في لحظات التّجلي عن الأرض؟ ★تقسم الرواية الثرية بأفكارها إلى أقسامٍ ثلاث، الطفولة والكهنوتية، الأسر والعبودية، الثورة والملك حتى الهزيمة والسقوط، كما وتتعدّد الشّخوص في كلّ قسم لربطِ الخيوط واكتمالِ الصّورة، ومن ثمّ الرّجوع أحياناً لتوظيفِ ذات الشخوص حتى النهاية… فكل من التقى بهم في الأسر وفي غابة الصّنوبر استخدمهم بطريقةٍ ذكيّة حتى آخرِ الرّواية، فساهموا في تصاعدِ الحبكة وتسلسل الأحداث دون انقطاع ك “هيرمياس و زيوكسيس، آخيوس” “أرخيلوس، أنتيغينيس” “فزيوكسيس والذي كان يرتدي فوق رأسه قبعة الخنزير هو الذي قد قتل جورجيوس ووالده، أي استمرّ الرّبط بطريقة بنّاءٍ ماهر في جسد الرواية بكل حرفيّة ومهارة” ★بعض النبوءات التي أثثت للحدث وأعطت السهولة والمصداقية والشعبية للثورة فيما بعد: _________________________ *”ستنجو السفينة ويغرق القمح” هذه النبوءة أوقفت تعذيبه وجعلته يقضي سنواته في القصر، دون أن يخدم في المزارع أو المطبخ وان يصبح الكاهن عند انتيغينس” *”فكّر مثل ملك، وعش مثل كاهن” أثثت لفترة الملك ولو أنها لم تخلو من الأخطاء والصراعات والفوضى والقتل المجانيّ *عيد المشاعل، رتّب لفترة الثورة والانتصار وانضمام الكثير من العبيد السوريين” * “انهض أيها الملك أنطيخوس وقد شعبك” هذه النبوءة بالإضافة للجماهيرية الضخمة في عيد المشاعل رتبت للانتصار والثورة *”فلاكوس والنبوءة عنه عند الحصار وموته عند زوجته” ★بعض الاختلافات بين الآلهة السورية القديمة والآلهة اليونانية _____________________________________ قدّم لنا الكاتب معلومات قيّمة لكل مهتمٍّ بالأساطير، بعضها تصويب والبعض الآخر افتخار وإظهار شجاع لغنى الماضي السوريّ العريق: *زيوس الإله /يشبه بوسيدون وديونيسيوس *هيرميس/ يشبه كيوبيد ذلك الطفل الإلهي المشاكس بينما هيرميس في منبج وأفاميا وأنطاكيا رجل ناضج تزين وجهه لحية قصيرة ويرتدي غلالة كتانية ★بعض النقاط المضيئة في الرواية: _______________________ الإشارة لوحدة الأديان والتي استخدم الكاتب فيها تلميحاً بإضافة تمثال الربة أترعتا لتمثال الربة التي كانت في معبد ديميتير الربة تايكي، وهذه إشارة وتلميح موفق للانضمام في المدنيّة والتعايش والسلام، على الرغم من أنّ الرابط الوحيد هو أنهما زوجتا ربّ الطقس” زيوس” عندهم ويقابله” الإله بعل” عندنا… *كما وتم التلميح والتصريح بأهمية دور المرأة في حياة السوريين ورفعها فإيونيس ارتبط ببيرثا وجعلها ملكة بحانبه وأمسك بيديها، كما وأنه منذ البداية تتبع أثرها وكأنها انعكاس لربّته… *أهمية دور السفينة ورحلة الخطف والتي جمعت أغلب الشخوص الفاعلة وبدأت برسم وتشميل الخيوط والخطوط والتي تشابكت ومن ثم ارتبطت وبنت البيت الداخلي للرواية بطريقة أدبية سردية باستحضار الماضي بمسمياته ومحاولة التفكير والتعمّق وإيجاد الارتباطات… الصّراع بين الخير والشر، بين الحقيقة والزيف، بين ماهو إنسانيّ ومايحمل صفة الوحشيّة والظلم، هو صراع أزليّ الخاسر الوحيد فيه هي الشعوب وهذا ثابت وحقيقيّ منذ الأزل. *دلالات سيميائية واستحضارها في متن الرواية: _________________________________ وقد تميزت كدلالة “شجرة الدردار “، استُعملت في الرّواية في مواقعَ مختلفة، وهذا لابدّ له دلالته، فلمَ استعملت هذه الشّجرة دون غيرها؟ ومامهي دلالتها قديماً؟ ترمز شجرة الدردار “للعالم السّفلي والكآبة والموت” ، وذلك لأن أغصانها الميتة تسقط دون سابق إنذار، وقد استعمل خشب الدردار في صناعةِ التّوابيت، كما ويمتلك هذا النوع من الأشجار الجميلة القدرة على رؤى الأحلام وفي بعض الثّقافات الأخرى اعتُبرت رمزاً للزواج، وأصبحت الصّور المرتبطة بالاقتران شائعة أيضاً في أدبِ عصر النّهضة وتعتبر أيضاً رمزاً للحكمة والحدس، وفي الأساطير السلتية ارتبطت شجرة الدردار “بالإله لوغ” المشهور بذكائه ومهارته وبالمجمل فهي “رمز القوّة الروحيّة، وجلب الأحلام إلى الحياة، والنظام إلى الفوضى، والشجاعة للخائفين والسلام للقلقين” وهذا ذكاء وتفوق ومهارة روائية إضافية في التوظيف والدلالات استعملها الروائي المبدع. يقول الأستاذ تيسير على لسان الراوي الملك :
“ترى ما الذي يجعل الإنسان المسحوق الذي ذاق مرارة الظلم، وكابد الألم في أقصى مراحله فرحاً بتدنيس قداسة الجسد الآدميّ بعد الموت؟ هل هي نزعة الانتقام؟ ربّما، ولكن ما الذي يفعله الانتقام للذات المعذّبة سوى أنه ينحط بها، ويجعلها مساوية للذات التي عذّبتها؟ كيف للمظلوم أن يفرح بانحطاط نفسه إلى الدرك الذي يقبع فيه ظالمه ومعذّبه؟! أم تراها نزعة الشرّ الكامنة فينا؟ ص ١٥١- ١٥٢ ★الصراع المأزوم في الرواية وإسقاطاته على العصر الحديث وربما على المستقبل _____ اعتمد الأستاذ تيسير على استحضار الماضي البعيد من خلال شخصية سورية كهنوتية قديمة من خلال لفائف أو وثائق، قرأها بتعمق وأثث شخوص وأحداث وصراعات الرواية ليظهر لنا ونحن أبناء اليوم، ماذا سيحصل لنا لو لم نقرأ التاريخ البعيد والقريب لمملكتنا السورية والتي نزفت الكثير من الدماء في السابق “أي قبل ظهور الأديان”ومنذ كان الإنسان مقسّماً بين عبدٍ وسيد، ملكٍ وخادم، كاهنٍ وراعٍ ، … *فهل استطعنا وبعد نزول الأديان أن نتخلى عن نزعة الشر الموجودة في داخل الإنسان بشكل عام ؟ *هل استخلصنا العبر ؟ *هل كانت قراءة التاريخ ناجعة وناجحة؟ *هل كانت مظلومية آخيوس والذي نطق بالحقيقة وطالب بإيقاف القتل المجاني ورفع السيف عن رقاب المظلومين ومحاسبة الآثمين ناجحة؟ *وكيف لم يتنبّه الملك ولم يستطع قمع الظلم وإيقاف الهجمية؟ *وماذا كلفه هذا التساهل والارتهان للطقوس فقط؟ أليس هو القائل “يا لمأساة صاحب العقل في مواكب الدهماء” صفحة ١٨١ فلمَ لم يستعمل عقله ويوقف وقوع الكارثة ونوافير الدم البريء!؟ ★قد خسرت الشعوب هنا في هذه الصراعات، لقمة عيشها وحيواتها ومستقبلها واكتست مدنهم بالدماء وانتشرت الأوبئة ولم يكن هناك ثمة من نجاة، فالعبيد الذين ثاروا لحريتهم فقدوا حيواتهم أو مرضوا أو أكلوا الجيف واقتتلوا ببطون فارغة حتى النهاية ★يقول أيضاً في محاولة لاستحضار دواخل روح السوريين الذين لهم صبغتهم المميزة : “يبكي السوري عادةً في أي مناسبة، يتشاءم إن شعر بالسعادة، ويتوقع مصيبة كبرى قادمة إن هو أرخى لنفسه العنان للفرح، أو إن أفرط في الضحك، كأن الحزن والبكاء والكمد هي مرافىء السوري للنجاة من قادم مجهول يترصده عند عتبة الباب” ص١٨٠ وهذه الفقرة التي جاءت قبل مقتل آخيوس ” والذي بمقتله قُتل صوت الحق، صوت المختلف، وبدأ الخطأ يزداد ويتفشّى ولم يعد هناك من رجعة… *عشرة فصول مشوقة بنهاية دائرية انتهت كما بدأت من نفس المكان والسؤال الأهم لنا كبشر عموماَ وكسوريين خصوصاً، أما آن الأوان للبناء؟
عمل روائي توثيقي تأريخي مستمر كبير جداً لكاتب يعرف ماذا يقول وكيف ومتى يقول تهانينا وكل التقدير
مقالات أخرى للكاتب
لا توجد مقالات أخرى لهذا الكاتب.
“خزائن الماضي و أدراج المستقبل” قراءة لرواية ” ملك اللصوص” لفائف إيونوس السوري “
“خزائن الماضي و أدراج المستقبل” قراءة لرواية ” ملك اللصوص” لفائف إيونوس السوري ” للكاتب السوري الأستاذ تيسير خلف
عندما يلحّ الماضي ليخرجَ من عنق زجاجةٍ معتّقة من خزائن التاريخ المغبّرة بفعلِ تعاقب الأزمان على روحِ وعقلِ باحثٍ وأديب، علّ فيها من العِبر مايمهّد لحقبةٍ تخصّنا، خالية من الصّراعات لأمّةٍ تستحقّ السّلام والطُمأنينة والحياة بعد سنواتٍ دموية طويلة، فما أشبهَ اليومَ بالأمس البعيد! *الموت وروائحه النّفاذة مازالت تغلّف تلك السطور والوثائق التي حوّلها الأستاذ تيسير بمهارتهِ المعتادة إلى رواية نابضة بالروح، خارجة من وثائق التاريخ، محمّلة بالعِبر لكل من يعتبر… فالوصول للمُلك أمرْ والحفاظ عليه أمر آخر، هذا مايقوله لنا التاريخ القديم، فأيونوس الأفامي السوري، ذلك الكاهن الذي وصل بثورته إلى سدّة الحكم يقدّم لنا -وعن طريق رواية تعتمد على الوثائق والتخييل- تجربة حكم استمرت لأربع سنوات “المسماة بثورة العبيد”، أريق بين صفحاتها الكثير من الدماء وذرفت على أعتابها دموع كثيرة، هذه حال كل الصراعات ومهما كانت مسمياتها ومبرراتها وموجباتها، تزهق الأرواح بالمجان ولا تكاد تميّز أنصال السيوف بين أنواع البشر،… وما أشبه الماضي البعيد بالحاضر القريب وربما بالمستقبل فصراعات البشر لاتتوقف وأنهارالدماء مازالت تزهق على مذبح الحياة… ★ملك اللصوص “لفائف إيونوس السوري” رواية للكاتب الأستاذ تيسير خلف تقع في “٢٢٤ صفحة” بلغة مميزة دافقة محمّلة بكمٍّ كبيرٍ من المعلومات والشخوص الناضحةبمعظمها بالعواطف الإنسانيّة والتي بعضها متخيل وبعضها الآخر حقيقي، مقسّمة إلى عشرة فصول معنونة، تسرد حياة بطلها الملك السّوري إيونوس او أنطيخوس كما أسمته “الرّبة أترعتا” في أحد تجلياته والتي أقدم بعدها على تخوم ثورته التي أجلسته على الكرسيّ. *بدأت الرواية بسردِ مسيرة حياته منذ الولادة، عن طريق لفائفَ تحكي قصّته المثيرة في أفاميا القديمة… كيف تم تحويل تلك اللفائف إلى رواية بشخوص نابضة بالحياة وأمكنة وأزمان نازفة محمّلة بالصّراعات الدامية على صوتِ طبول الحروب العبثيّة وبطون الجوعى والمقهورين، والتي ابتدأت بطلبات محقّة من حرية للعبيد المقهورين، وحفظٍ للكرامات، وتوزيعٍ عادل للخيرات والمؤن والأرزاق، وانتهت بموتِ الحلم بالعدالة في صراعاتٍ عبثيّة وسلبٍ ونهبٍ وتنكيل، وقتلٍ وتعذيب؟ ★اختار الاستاذ تيسير مدخلاً عبقرياً لروايته، حيث يقول في مطلعها: “في أفاميا القديمة حيث وُلد الفيلسوف والفلكي والمؤرخ السوريّ الشّهير “بوسيدونيوس”، عاش رجلٌ معمّرٌ غريب الأطوار وحيداً في منزلٍ صغير قرب بوابة لاريسا، يخرج في بعض الأيام صباحاً متوكئاً على عصاه الطويلة، ويتّجه صوب نهر أورونتس العاصي، حيث يمضي جلّ وقته قرب شجرة دردارٍ معمّرة، وفي المساء، يعود إلى بيتهِ من دون أن يكلّم أحداً…” ” وماهذا العجوز إلا إيونوس نفسه واللّفائف هي قصته ” *الدستور مابين التلميح والتصريح والمباشرة:
______________________________ اعتمدَ الكاتب في سرده لأحداثِ الجزء الثالث من روايته، والذي خصصه للجلوس على العرش، بمساعدةِ أذرعه التي اختارها من محاربين وزوجة وعبيد أُعتقوا على التلميح أحياناً والتصريح أحايين أخرى، لأهمية وجود دستور عادل وقوي لحفظ ودوام الحكم لأي مملكة والابتعاد عن الموروثات والطقوس والأديان الكهنوتية، وفي ذلك تلميح يقبلهُ واقعنا ويفهمه قارئنا… فما تلك الوريقات التي نهت عن أكل السمك والتي فهمها البعض دون تبصّر وشكّلوا على إثرها”عُصبة السّمك المقدّس”وبدؤوا بمحاسبة المخالفين بأقصى العقوبات، على الرغم من الجوع الذي كان أشد فتكاً، إلا مثال وعبرة، ومن ثم انشقاقٌ آخر لتحريم أكل السمك والحمام أيضاً، فهاهم قد اهتمّوا بالقشور وتركوا المملكة بجياعها ولصوصها وقتلاها، فزاد الظلم والقهر والموت والتنكيل والسّرقات، وتفشّت الجريمة، وانتشرت الفواحش والأمراض ونقصت الأغلال، ولم يعد أحد يهتم بزراعة ولا بصناعة، فعم الخراب وأُسقطت المملكة بيدها قبل سقوطها الحقيقي على أيدي أعداءها بعد حكمٍ استمرّ أربع سنوات، وهذا بسبب التفرّق والشرذمة والخلافات، والابتعاد عن المحبّة والألفة وتطبيق العدالة التي كانت مهمّة للإستمرارية، ولن ننسى أن روما أيضاً والتي كانت غارقة بالفوضى والظلم لم تكن بحالٍ أفضل، فغياب العدالة والتوزيع المحقّ للثروات والمحاكمة والمحاسبة ينشر الفوضى ويزيد الجريمة والتي تؤدي بدورها لانتشار الرذائل فهذا التّرف الذي كان راسخاً ومسيطراً في القصور، والظلم للعبيد ماهو إلا مثالٌ لم يتّعظ منه المنتصر فوقع في فخّ السلطة وسطوتها، وسقط كما سقطتت ممالك غيره…
كما واختتم أحداث روايته في ذات الكوخ، وهذه الطّريقة السينمائيّة في المقدّمة والخاتمة جعلت من هذا العمل الرّوائي وعلى مدار صفحاته توثيقاً لايخلو من خيال ولا يبتعد عن الواقع، فمن هو هذا الملك وكيف كانت مسيرة حياته ابتداءً من ولادته بعينين متغايرتين تثيران حفيظة كل من يراه، ومروراً بطفولة غريبة عند مربية تدعى “شمش” قد لاحظت اختلافه عن أقرانه وكأنه يمتلك نزعة الكهنوتية منذ الصغر، ليصار إلى وضعهِ ونذره لخدمة الآلهة وتحضيره للكهنوتية… وهل نجح مسعى رسم طريقة حياته؟ هل أفلح بأن يكون كاهناً مقرباً من” الرّبة أترعتا” والتي كانت ترفعه في لحظات التّجلي عن الأرض؟ ★تقسم الرواية الثرية بأفكارها إلى أقسامٍ ثلاث، الطفولة والكهنوتية، الأسر والعبودية، الثورة والملك حتى الهزيمة والسقوط، كما وتتعدّد الشّخوص في كلّ قسم لربطِ الخيوط واكتمالِ الصّورة، ومن ثمّ الرّجوع أحياناً لتوظيفِ ذات الشخوص حتى النهاية… فكل من التقى بهم في الأسر وفي غابة الصّنوبر استخدمهم بطريقةٍ ذكيّة حتى آخرِ الرّواية، فساهموا في تصاعدِ الحبكة وتسلسل الأحداث دون انقطاع ك “هيرمياس و زيوكسيس، آخيوس” “أرخيلوس، أنتيغينيس” “فزيوكسيس والذي كان يرتدي فوق رأسه قبعة الخنزير هو الذي قد قتل جورجيوس ووالده، أي استمرّ الرّبط بطريقة بنّاءٍ ماهر في جسد الرواية بكل حرفيّة ومهارة” ★بعض النبوءات التي أثثت للحدث وأعطت السهولة والمصداقية والشعبية للثورة فيما بعد: _________________________ *”ستنجو السفينة ويغرق القمح” هذه النبوءة أوقفت تعذيبه وجعلته يقضي سنواته في القصر، دون أن يخدم في المزارع أو المطبخ وان يصبح الكاهن عند انتيغينس” *”فكّر مثل ملك، وعش مثل كاهن” أثثت لفترة الملك ولو أنها لم تخلو من الأخطاء والصراعات والفوضى والقتل المجانيّ *عيد المشاعل، رتّب لفترة الثورة والانتصار وانضمام الكثير من العبيد السوريين” * “انهض أيها الملك أنطيخوس وقد شعبك” هذه النبوءة بالإضافة للجماهيرية الضخمة في عيد المشاعل رتبت للانتصار والثورة *”فلاكوس والنبوءة عنه عند الحصار وموته عند زوجته” ★بعض الاختلافات بين الآلهة السورية القديمة والآلهة اليونانية _____________________________________ قدّم لنا الكاتب معلومات قيّمة لكل مهتمٍّ بالأساطير، بعضها تصويب والبعض الآخر افتخار وإظهار شجاع لغنى الماضي السوريّ العريق: *زيوس الإله /يشبه بوسيدون وديونيسيوس *هيرميس/ يشبه كيوبيد ذلك الطفل الإلهي المشاكس بينما هيرميس في منبج وأفاميا وأنطاكيا رجل ناضج تزين وجهه لحية قصيرة ويرتدي غلالة كتانية ★بعض النقاط المضيئة في الرواية: _______________________ الإشارة لوحدة الأديان والتي استخدم الكاتب فيها تلميحاً بإضافة تمثال الربة أترعتا لتمثال الربة التي كانت في معبد ديميتير الربة تايكي، وهذه إشارة وتلميح موفق للانضمام في المدنيّة والتعايش والسلام، على الرغم من أنّ الرابط الوحيد هو أنهما زوجتا ربّ الطقس” زيوس” عندهم ويقابله” الإله بعل” عندنا… *كما وتم التلميح والتصريح بأهمية دور المرأة في حياة السوريين ورفعها فإيونيس ارتبط ببيرثا وجعلها ملكة بحانبه وأمسك بيديها، كما وأنه منذ البداية تتبع أثرها وكأنها انعكاس لربّته… *أهمية دور السفينة ورحلة الخطف والتي جمعت أغلب الشخوص الفاعلة وبدأت برسم وتشميل الخيوط والخطوط والتي تشابكت ومن ثم ارتبطت وبنت البيت الداخلي للرواية بطريقة أدبية سردية باستحضار الماضي بمسمياته ومحاولة التفكير والتعمّق وإيجاد الارتباطات… الصّراع بين الخير والشر، بين الحقيقة والزيف، بين ماهو إنسانيّ ومايحمل صفة الوحشيّة والظلم، هو صراع أزليّ الخاسر الوحيد فيه هي الشعوب وهذا ثابت وحقيقيّ منذ الأزل. *دلالات سيميائية واستحضارها في متن الرواية: _________________________________ وقد تميزت كدلالة “شجرة الدردار “، استُعملت في الرّواية في مواقعَ مختلفة، وهذا لابدّ له دلالته، فلمَ استعملت هذه الشّجرة دون غيرها؟ ومامهي دلالتها قديماً؟ ترمز شجرة الدردار “للعالم السّفلي والكآبة والموت” ، وذلك لأن أغصانها الميتة تسقط دون سابق إنذار، وقد استعمل خشب الدردار في صناعةِ التّوابيت، كما ويمتلك هذا النوع من الأشجار الجميلة القدرة على رؤى الأحلام وفي بعض الثّقافات الأخرى اعتُبرت رمزاً للزواج، وأصبحت الصّور المرتبطة بالاقتران شائعة أيضاً في أدبِ عصر النّهضة وتعتبر أيضاً رمزاً للحكمة والحدس، وفي الأساطير السلتية ارتبطت شجرة الدردار “بالإله لوغ” المشهور بذكائه ومهارته وبالمجمل فهي “رمز القوّة الروحيّة، وجلب الأحلام إلى الحياة، والنظام إلى الفوضى، والشجاعة للخائفين والسلام للقلقين” وهذا ذكاء وتفوق ومهارة روائية إضافية في التوظيف والدلالات استعملها الروائي المبدع. يقول الأستاذ تيسير على لسان الراوي الملك :
“ترى ما الذي يجعل الإنسان المسحوق الذي ذاق مرارة الظلم، وكابد الألم في أقصى مراحله فرحاً بتدنيس قداسة الجسد الآدميّ بعد الموت؟ هل هي نزعة الانتقام؟ ربّما، ولكن ما الذي يفعله الانتقام للذات المعذّبة سوى أنه ينحط بها، ويجعلها مساوية للذات التي عذّبتها؟ كيف للمظلوم أن يفرح بانحطاط نفسه إلى الدرك الذي يقبع فيه ظالمه ومعذّبه؟! أم تراها نزعة الشرّ الكامنة فينا؟ ص ١٥١- ١٥٢ ★الصراع المأزوم في الرواية وإسقاطاته على العصر الحديث وربما على المستقبل _____ اعتمد الأستاذ تيسير على استحضار الماضي البعيد من خلال شخصية سورية كهنوتية قديمة من خلال لفائف أو وثائق، قرأها بتعمق وأثث شخوص وأحداث وصراعات الرواية ليظهر لنا ونحن أبناء اليوم، ماذا سيحصل لنا لو لم نقرأ التاريخ البعيد والقريب لمملكتنا السورية والتي نزفت الكثير من الدماء في السابق “أي قبل ظهور الأديان”ومنذ كان الإنسان مقسّماً بين عبدٍ وسيد، ملكٍ وخادم، كاهنٍ وراعٍ ، … *فهل استطعنا وبعد نزول الأديان أن نتخلى عن نزعة الشر الموجودة في داخل الإنسان بشكل عام ؟ *هل استخلصنا العبر ؟ *هل كانت قراءة التاريخ ناجعة وناجحة؟ *هل كانت مظلومية آخيوس والذي نطق بالحقيقة وطالب بإيقاف القتل المجاني ورفع السيف عن رقاب المظلومين ومحاسبة الآثمين ناجحة؟ *وكيف لم يتنبّه الملك ولم يستطع قمع الظلم وإيقاف الهجمية؟ *وماذا كلفه هذا التساهل والارتهان للطقوس فقط؟ أليس هو القائل “يا لمأساة صاحب العقل في مواكب الدهماء” صفحة ١٨١ فلمَ لم يستعمل عقله ويوقف وقوع الكارثة ونوافير الدم البريء!؟ ★قد خسرت الشعوب هنا في هذه الصراعات، لقمة عيشها وحيواتها ومستقبلها واكتست مدنهم بالدماء وانتشرت الأوبئة ولم يكن هناك ثمة من نجاة، فالعبيد الذين ثاروا لحريتهم فقدوا حيواتهم أو مرضوا أو أكلوا الجيف واقتتلوا ببطون فارغة حتى النهاية ★يقول أيضاً في محاولة لاستحضار دواخل روح السوريين الذين لهم صبغتهم المميزة : “يبكي السوري عادةً في أي مناسبة، يتشاءم إن شعر بالسعادة، ويتوقع مصيبة كبرى قادمة إن هو أرخى لنفسه العنان للفرح، أو إن أفرط في الضحك، كأن الحزن والبكاء والكمد هي مرافىء السوري للنجاة من قادم مجهول يترصده عند عتبة الباب” ص١٨٠ وهذه الفقرة التي جاءت قبل مقتل آخيوس ” والذي بمقتله قُتل صوت الحق، صوت المختلف، وبدأ الخطأ يزداد ويتفشّى ولم يعد هناك من رجعة… *عشرة فصول مشوقة بنهاية دائرية انتهت كما بدأت من نفس المكان والسؤال الأهم لنا كبشر عموماَ وكسوريين خصوصاً، أما آن الأوان للبناء؟
عمل روائي توثيقي تأريخي مستمر كبير جداً لكاتب يعرف ماذا يقول وكيف ومتى يقول تهانينا وكل التقدير
التعليقات