لا احد يعرف بالضبط، كم عدد السنين التي مرت على امتلاك ابي لمسبحته، لكن اغلب الناس يعرفون عنها وعنه حكايات كثيرة، بعضها جاءت للتندر من علاقته بهذه المسبحة العجيبة، وبعضها الاخر بدافع الحسد الذي كثيرا ما دفع ثمنه حين يقوم بافعال تجعله يثور ويغضب، حتى ان أمنا قالت ذات يوم، ان هذه المسبحة سبب جميع امراضي! كان ابي حين يكون في المقهى او تجمعه بالناس مناسبة اجتماعية يفاخر بمسبحته التي اختلف الناس في عدد خرزاتها، اذ هناك من قال انها تجاوزت العشرين وهناك من قال انها دون الثلاثين بقليل واخرون قالوا انها تجاوزت الثلاثين، ولم يسمح ابي لاحد ان يعد خرزاتها او يلمسها، ولم يأبه هو لعدد الخرزات.. في كثير من الاحيان وعندما يكون رائق المزاج بين اصحابه، يشبع فضولهم في شم الرائحة الزكية التي تفوح منها حين يفركها بكفيه الغليظتين، ويقربها من الانوف التي تتسابق لشم تلك الرائحة، لكن اكثر ما يغضب ابي ما كان يسمعه من ان هذه الرائحة ربما تكون لعطر يضمخ المسبحة به وليس من حباتها التي ينضّ منها كلما فركها… لم يسلم ابونا ومسبحته من الاشاعات التي يطلقها البعض عن علاقته بالمسبحة، لأن احدا لا يعرف بالضبط متى اقتناها ومن اين وهو ايضا ابقى الامر سرا، ما زاد من التقولات والتاويلات، التي زادت من غموض حكايته، التي غدت حديث الناس في المناطق القريبة والبعيدة التي وصلتها اخبار مسبحة ابي وحكايته معها. مسبحة تزداد توهجا كلّما فركتها الاكف وتنزف عطرا اخاذا يسكر من يشمها، اما شكلها الجميل فيجعل ابانا دائما منتشيا وهو يعيش ساعات فخره المتجددة وسط المجالس، حيث تكون الابصار كلها متجهة اليه ومسبحته. قالت لي امي في مساء احد الايام، بعد ان خرج ابي حاملا مسبحته، وشيئا من الهم تركته في صدره مشاكل عائلية وصحية، ان اباك صار يعيش من اجل هذه المسبحة، وكثيرا ما كنت اسمع انينه في الليل، حين يكون في مكان منعزل عن العائلة، ويبدأ بغناء اشبه ما يكون بالنحيب ثم سرعان ما يتحول الى بكاء مر ينخرط به ولا يسكت الا بعد ان ينقع المسبحة بدموعه، من دون ان يذكر لي الاسباب، الاّ اني اجبرته ذات يوم على ان يبوح لي بما في صدره.. قال، وهو يمسك المسبحة بيد ويضع اليد الاخرى على حنكه؛ لقد صارت تاتيني في الاشهر الاخيرة احلام مخيفة، حيث اشعر وكأن مسبحتي انسرقت او احترق بيتنا واحترقت معه، او ان حباتها انفرطت في غفلة مني ولم اعرف اين حصل هذا، فاصحو مهموما يحاصرني خوف من المجهول، فالمسبحة باتت الهواء الذي اتنفسه ولا استطيع العيش بدونها. كان كلام امي هذا قبل ان يصاب ابي بمرض الزمه الفراش، مرض غريب حقا، لازمه في المدة الاخيرة، وصار يتفاقم مع الايام، الّا ان الشيء الذي ترددت امي كثيرا قبل ان تقوله لي، هو ان ابي اخذ يشكو في سنينه الاخيرة من نتوءات صغيرة جدا، تظهر على بعض الخرز، تشبه الدبابيس لا ترى الّا بالكاد، وحين يداعبها باصابعه تخِزه، وقد اخفى الامر عني، لكنه وبعد ان اخذت اصابعه تتقرح، ولم يعد قادرا على اخفاء
الامر، وجدته جالسا وحده في غرفته والمسبحة امامه، وكان صامتا يبكي ويعالج القروح التي اكتسحت كفيه. في الليلة التي سبقت رحيل ابي، كان جالسا في المقهى، يكسوه حزن وهمّ، والناس تتحدث عن عاصفة قادمة ستضرب المدينة، ولغط واشاعات كثيرة، لم يخل بعضها من تهويلات لإثارة الرعب بين الناس، يطلقها البعض للفت الانظار، الامر الذي جعل رواد المقهى لذلك اليوم قليلين، وكانوا كلهم ينظرون لأبي ومسبحته بعيون ذئبية، ويتحدثون عن الاعصار القادم وعن اشياء اخرى تجعل ابي يشيح بوجهه عنهم احيانا. سبق الاعصار غبار كثيف، كان يعلو شيئا فشيئا، حتى غطى المدينة كلها واخفى معالمها تماما، وقبل ان يهدأ غضب السماء، كان ابي ممددا على الاريكة، وحده، وقد تناثرت حبات مسبحته في المكان، واخذت تحاصر جلسته كائنات صغيرة على شكل عقارب وأفاعٍ لا تكاد ترى، راحت تعض حبات المسبحة المتناثرة على الارض، وتمتص بعضها في مشهد مروع، فيما كان ابي المستلقي وحده على الاريكة، غائبا تماما وسط احلام غريبة غزت راسه، وجعلته يبدو كالميت في المكان الذي راحت تعبث به ريح الاعصار المغبرة، وتهز المدينة التي غامت فيها وجوه الناس المذهولة من هول الاعصار، وقد نسوا حكاية مسبحة ابي بعد ان توزعت الشوارع وجوه بشر على شكل عقارب كبيرة وافاعٍ يمسك كل واحد منهم بمسبحة من لون مختلف يداعبونها باصابع كالمخالب، ويوزعون على المارة ابتسامات صفراء…
حسن العکیلي
هادي المیاح
حیدر جاسم محمد المشکور
التعليقات