حوار مع الشاعر الأمريكي تشارلز بوكاوسكي Charles Bukowski 1920-1994
عندما وجدناه قرب البوابة الرئيسية لمسرح إعادة خياطة التاريخ، منكبّاً على تصليح الغسالة الضخمة الحمراء،امتلأنا بهجةً. إلا أن المشهد لم يكتمل،إذ سرعان ما أخرجَ الشاعرُ زجاجةَ شرابٍ من جيب معطفه الطويل ،مُطلقاً بوجهنا قهقهات وصارخاً: أنا هو تشارلز بوكاوسكي بالضبط. الشخص الذي كان يحملُ اسم تشارلز بوكوفسكي قبل التصحيح .فلا تبحثوا عن آخر سواي في عرض هذه السموات التي تبدو كآثارٍ قديمة بأطلال ومدافن . ليس عندي عمل بعد هذه الساعات.انتهتْ نوبتي بما يُسمى بشغل الاستطيقا،أو علم الجمال المتوحش . لقد غسلتُ الكثير من ملابس وحوش الأرض بمنظفات المثانة،وقدمتُ غسولها للذئاب التي افترست مذكرات شعوب التراب . أنا لم أتخلَ عن عدم الاحْتِشام.فقد كانت وظيفتي وستبقى في طاحونة هذا الوجود المتعدّد المتكاثر المغموس بنكهة النانو،حيث كلما تقلصّ حجمهُ،كلما اتسعتْ ذاكرتهُ بالاحتواء ،وازددنا التهاباً بالقصائد المشبّعة بروائح الآلام المتفجّرة بتضاريس خرائط الأرواح البعيدة. أنتم تريدون محاورتي.فتعالوا قبل أن تفيض نفسي بحركةِ المدّ والجزر إلى المدى الذي لا نعرفهُ .اجلسوا معي على عتبة هذه الغسالة العظمى للوجود وأطلقوا الأسئلةَ كما الرصاص بوجه شاعر وروائي مثلي.أنا تشارلز بوكاوسكي . آنذاك ..خففنا من غضبه وقلنا له بهدوء :
■ لقد اختلفَ المترجمون العربُ حول كتابةِ اسمكَ .منهم من ترجمكَ تشارلز بوكوفسكي .ومنهم من صحح،فأدعى بأن اسمك الصحيح هو تشارلز بوكاوسكي .فبماذا تقترحُ علينا أن نناديكَ في هذا الحوار؟
_ أرى أن يغادرَ المترجمون الاسمَ كتابةً ،ويجتهدوا برسم صورتي الفخمة، بكلّ ما فيها من مبانٍ وحفر ومستنقعات ومواخير .اسمي ،ليس قطعة لحمٍ،عندما تقع من جسدي ،تؤلمني.أنا في أحايين كثر، أتوقُ إلى رمي تشارلز بوكوفسكي على الرصيف دون أسف. بل ،وعادة ما كنت أترك اسمي في مكان،لأنتقلَ إلى آخر هرباً منه .اسمي مثل بنطلون جينز ضيق ،طالما حاولت تمزيقهُ والتخلص من خشونة قماشه الذكوري.
■ وهل تظن بأن رسمك أو صورتك ، لا تحتاج هي الأخرى إلى ترجمة يا سيد تشارلز؟
_ ان وجهي ،بقدر ما كان مشوهاً بمرض حب الشباب، ومطروداً من كل مرآة .بقدر ما كان ذلك قاسياً علىّ إلى حدّ بعيد.
■ أليس طردكَ من كل مرآة،أفضلُ من إبعادك عن كل امرأة ؟
_ لم يكن ذلك مؤكداً .فقد طُردتُ من مرآة الزجاج ومن مرايا لُحوم النساءات على حدّ سواء. في المرآة ،اكتشفتُ عزلتي الأولى ،وغادرتُ إلى فكرة تبني القسوة كمفهوم فلسفي حامض .وفي المرأة ،وجدتُ التيهَ موصولاً ما بين وجهي والرصيف،ولذلك بلغتُ مرحلةَ البحثِ عن اللُحوم المُكّرّرة بمياهِ مختلف الرجال.
■ كأنكَ ترمي جسدكَ في الأتون الجنسي للحظات،ثم تهربْ ؟!
_ في بداية الأمر،كان البغاءُ بالنسبة لي أمراً فظيعاً .ولكن سرعان ما أصبح عادةً لتفريغِ الحمولات ليس إلا.يا للهوّل!
■ ولكن ذلك قَدمَ لكَ خدمةً لكتابة الشعر.أليس من الصحيح قول ذلك ؟
_ الشعرُ لا يحتاجُ إلى ذلك البغاء الذي توسعتُ بآفاقه،لأنه هو البغاءُ بعينه.
■ تقول أن الشعرَ هو البغاء بعينهِ .هل يأتي قوله هذا من باب المجاز مثلاً يا تشارلز؟!!
_ لا أبداً. ما أقصدهُ أن في دم الشعرِ صفائح لتوليد البغاء اللغوي ،تُسمى صفائح الشّهوات المنفلتة من صرامة اللغة ،والهاربة من شروط الكتابة المُنظمة للنصوص ،وفقاً للقوانين ولآداب الشرطة والسلوك الفني والاجتماعي.
■ ولكن ذلك لم يبرز في أعظم قصائد شعراء العالم،ومنهم شعراء الرومانسية والعذرية والمتصوفة والأيديولوجيات !!
_ أبرز شعراء العالم ممن يمكن التحدث عنهم بالأسماء والنصوص، هم بالدرجة الأولى من شعراء العُنّة .لذلك تجدهم مستورين .منهم شعراء ينتمون إلى جيل المحافظين، ويفضلون التعامل مع رغباتهم كغبار،يمكن تنظيف أجسادهم منه بعصي الريش .هناك آخرون لا يرغبون بالإفصاح عن تهتكهم الجنسي،لأنهم يمارسون الإباحية المطلقة وراء الأبواب الحديدة المغلقة.
■ أنت جربّتَ البغاءَ والزواجَ لفترات متفاوتةٍ .فأي من الحالتين ،كنتَ حريصاً على الالتصاق بها ؟
_ لمْ يحافظ جسدي على أي من القطبين،لأنني كنتُ فاقداً للمغناطيس.
■ بسبب الحرمان أم نتيجة فائض الحب؟
_ لا هذا ولا ذاك. أنا فقدتُ مادتي المغناطيسية من كثرةِ احتكاكِ قسوةِ أبي بجلدي .كان وحشاً قاسياً يثورُ لأتفهِ الأسباب.وإلى جانب ذلك ،فقد كنتُ مُعقّداً من مرض حب الشباب الذي سرعان ما نهش وجهي،وتركهَ خريطةً تستدرجُ ضحكَ الآخرين وسخريتهم العنيفة مني.
■ كل النساء اللائي تعرفَ عليهنّ تشارلز بوكاوسكي ،هربنّ أو اختفين أو نالتْ منكَ لعناتهنّ .هل كنت وضيعاً مع تلك الأجساد التي كانت تبيعك اللذّة ؟
أغلب النساء اللاتي مررتُ بهنّ،كنّ يُشَبهنّ أنفسهنّ بالعبوات الناسفة،إلا في سريري. وكانت النتيجة، أن بعضهنّ وجبة فاسدة من طبخة بلا ملح.وبعضهن من الأخريات ،تخرجُ عليكَ من علبةِ الصفيح كسمكة سردين مضغوطةً بزيت رخيص مُهدرَج،لكنها ميتة. عدا (جين بيكر) و(ليندا كينغ) و(بليندا لي بيغل) فكنّ مختلفات تماماً.
■ ولمَ الثلاث مستثنيات من لعناتكَ يا تشارلز ؟
_ذلك الاستثناء يؤكدُ أن الأولى كانت الكأس والثانية كانت الكحول.والثالثة كانت فمي الذي تجري به النيرانُ لإشعال الحرائق في عموم مناطق الجسم ولغات العالم التي كانت تضطجع كالبهائم على الكنبة التي كانت في زريبة المعيشة .
■ في مقابلة معك قلت ذات يوم:”أنت تعيش في بلدة طيلة حياتك، وتعرف كل عاهرة في كل زاوية شارع ونصفهم يكونون ممن قد تغزلت بهم. لديك مخطط للأرض كلها. لديك صورة من أين أنت.. لقد نشأت في لوس انجلوس، وأشعر دائما بالانتماء الجغرافي والروحي الذي يجري هنا. قضيت الوقت لأتعلم هذه المدينة. لا أستطيع أن أرى أي مكان آخر غير لوس انجلوس “. برأيك.. هل هذا توصيف يُلخص أمريكا كأحد مناطق جسمك المهووس بالخمر وبالعاهرات ؟
_ هل تعرف غاز النيون؟
■ نعم.ما به؟
_ أنا مثل ذلك الغاز في مصباح يُسمى بـ (لوس انجلوس ).متى ما انكسرَ الزجاجُ ، سرعان ما ينتهي مفعولي وأموتُ مع حطام الم
أحمد الكناني
مصطفى عبدالملك الصميدي
وفاء منلا
التعليقات