“جدرانٌ تتحدث”

صورة الكاتب
بقلم: ميرفت الخزاعي
التاريخ: 15 نوفمبر 2025 عدد المشاهدات: 1381
“جدرانٌ تتحدث”

في أحد أحياء غزة القديمة، سار سامر متأملًا الشوارع الضيقة التي حاصرتها الجدران المتهالكة، تهيأ له ان الجدران الباهتة تهتزُ وتتأوه كلما مر بها وكأنها تدعوه ليعيد لها الحياة التي سلبها إياها الزمن. عاش سامر بشغف الفن، يحمل في قلبه طموحًا لتحويل تلك الجدران الصامتة إلى لوحات تنطق بالأمل والمقاومة. في مدينة مثقلة بالحصار، كانت ريشته سلاحه، وألوانه تروي قصصًا لا يستطيع أحد كتمانها. سامر تعلّم الرسم منذ صغره وأحبه وتعلق به، في البداية كانت الجدران تمثل له مجرد مساحة خالية يختبر فيها ابداعه وفنه، لكنها تحوّلت مع مرور الوقت إلى لوحات تعكس قصص الناس. حملت جدرانه رسائل من قلوب مكسورة وأرواح متطلعة للحرية. أصبحت الجداريات طريقته في إخبار العالم بما يعيشه أهل غزة. الغارات المكثفة والمتوالية لجيش الاحتلال، الحصار والنقص الحاد في كل شيء وليس في المواد الأساسية، كالأغذية والوقود والماء الصالح للشرب فحسب. وصعوبة الحصول على المواد الأولية للرسم لاسيما الاصباغ والدهان ما جعله يتساءل: كيف يُبدع الفنان بلا ألوان؟ إلا أن روح المحارب التي تسكنه جعلته يصرّ على مواصلة مشواره. لم تكن الألوان هي ما يُحركه، بل الرغبة في التعبير، في أن تكون جدران غزة ناطقة. فما فائدة الفرشاة والألوان في يدٍ عاجزة؟! يدٌ فاقدة للأمل في المستقبل والحياة. في إحدى الليالي، وهو جالس في غرفته الصغيرة محاطًا بالعلب الفارغة من الطلاء، فكر سامر: “الألوان قد تنتهي، لكن الرسالة لا تموت.” قرر ألا ينتظر وصول مواد جديدة. مزج ما تبقى له من قطرات زيت مع آخر علبة ألوان لديه. عرف سامر أن رسم الجداريات في غزة ليس مجرد فن، بل كان تحديًا في وجه القمع. قوات الاحتلال كانت تُزيل تلك الرسومات أو تطمسها، بردمها او سحقها بدباباتها ومدرعاتها لكن سامر ورفاقه كانوا يعيدون رسمها باستمرار. الجدران في عيونهم كانت صفحات مفتوحة تنبض بالحياة، حتى في أكثر اللحظات ظلمة. شرع سامر في رسم جدارية ضخمة، تُصور طائرًا بجناح مكسور يحاول التحليق، فيما تحمل يدٌ فرشاة رسم وكأنها تقول: “حتى في أشد الأوقات، هناك دائمًا أمل.” مرّ الناس بالجدارية، البعض أبدى إعجابه بصمت، والبعض التقط صورًا لها ليشاركها مع أصدقائه. كانت تلك الجدارية تُحاكي صدى شعور الجميع. خلال إحدى جلسات الرسم، اقترب منه رجل مسنّ، جلس بجانبه وقال له: “هذه الجدران تحمل رسائلنا. أنت لا ترسم فقط، بل تُعيد لنا الحياة.” تلك الكلمات أثارت في قلب سامر قوة جديدة. استمر في الرسم، مسلحًا بعزيمة لا تُقهر. لم يعد يهتم إن تم تدمير جدارياته، كان يعرف أن هناك دائمًا جدار جديد ينتظر أن يتحدث. يبدو ان عدوى الجدران الملونة امتدت لفنون أخرى فها هي الآلات الموسيقية تصدح جنبا الى جنب مع الفراشي وبقع الدهان. تشارك سامر مع أصدقائه الموسيقيين في جلسات فنية، يجتمعون معًا، هو يرسم، وهم يعزفون. كانت الجدران تنطق بالصور، والموسيقى تضيف لها صوتًا. هذا المزج بين الصوت والصورة كان تعبيرا عن جوهر الصمود. مع مرور الأيام، تزينت جدران غزة بلوحات سامر ورفاقه. لم يعد الجدار مجرد هيكل صامت، بل أصبح شاهدًا على نضال مستمر. في كل زاوية، يمكنك رؤية أمل مرسوم، قصة تُروى بصوت ألوان باهتة لكنها مليئة بالحياة. حتى وإن تلاشت الألوان أو هُدمت الجدران، ظلت الرسائل حيّة في قلوب الناس. الفن في غزة لم يكن مجرد تعبير عن الذات، بل أصبح جزءًا من الهوية والمقاومة، وسامر كان أحد رواد هذا الصمود الفني. الجدران شاهد اثبات على حب الحياة والامل بها والمقاومة لنيل الحرية.

عن الکاتب / الکاتبة

ميرفت الخزاعي
ميرفت الخزاعي
أدیبة وقاصة/ العراق

مقالات أخرى للكاتب

لا توجد مقالات أخرى لهذا الكاتب.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


“جدرانٌ تتحدث”

بقلم: ميرفت الخزاعي | التاريخ: 15 نوفمبر 2025

التصنيف: قصة قصيرة

في أحد أحياء غزة القديمة، سار سامر متأملًا الشوارع الضيقة التي حاصرتها الجدران المتهالكة، تهيأ له ان الجدران الباهتة تهتزُ وتتأوه كلما مر بها وكأنها تدعوه ليعيد لها الحياة التي سلبها إياها الزمن. عاش سامر بشغف الفن، يحمل في قلبه طموحًا لتحويل تلك الجدران الصامتة إلى لوحات تنطق بالأمل والمقاومة. في مدينة مثقلة بالحصار، كانت ريشته سلاحه، وألوانه تروي قصصًا لا يستطيع أحد كتمانها. سامر تعلّم الرسم منذ صغره وأحبه وتعلق به، في البداية كانت الجدران تمثل له مجرد مساحة خالية يختبر فيها ابداعه وفنه، لكنها تحوّلت مع مرور الوقت إلى لوحات تعكس قصص الناس. حملت جدرانه رسائل من قلوب مكسورة وأرواح متطلعة للحرية. أصبحت الجداريات طريقته في إخبار العالم بما يعيشه أهل غزة. الغارات المكثفة والمتوالية لجيش الاحتلال، الحصار والنقص الحاد في كل شيء وليس في المواد الأساسية، كالأغذية والوقود والماء الصالح للشرب فحسب. وصعوبة الحصول على المواد الأولية للرسم لاسيما الاصباغ والدهان ما جعله يتساءل: كيف يُبدع الفنان بلا ألوان؟ إلا أن روح المحارب التي تسكنه جعلته يصرّ على مواصلة مشواره. لم تكن الألوان هي ما يُحركه، بل الرغبة في التعبير، في أن تكون جدران غزة ناطقة. فما فائدة الفرشاة والألوان في يدٍ عاجزة؟! يدٌ فاقدة للأمل في المستقبل والحياة. في إحدى الليالي، وهو جالس في غرفته الصغيرة محاطًا بالعلب الفارغة من الطلاء، فكر سامر: “الألوان قد تنتهي، لكن الرسالة لا تموت.” قرر ألا ينتظر وصول مواد جديدة. مزج ما تبقى له من قطرات زيت مع آخر علبة ألوان لديه. عرف سامر أن رسم الجداريات في غزة ليس مجرد فن، بل كان تحديًا في وجه القمع. قوات الاحتلال كانت تُزيل تلك الرسومات أو تطمسها، بردمها او سحقها بدباباتها ومدرعاتها لكن سامر ورفاقه كانوا يعيدون رسمها باستمرار. الجدران في عيونهم كانت صفحات مفتوحة تنبض بالحياة، حتى في أكثر اللحظات ظلمة. شرع سامر في رسم جدارية ضخمة، تُصور طائرًا بجناح مكسور يحاول التحليق، فيما تحمل يدٌ فرشاة رسم وكأنها تقول: “حتى في أشد الأوقات، هناك دائمًا أمل.” مرّ الناس بالجدارية، البعض أبدى إعجابه بصمت، والبعض التقط صورًا لها ليشاركها مع أصدقائه. كانت تلك الجدارية تُحاكي صدى شعور الجميع. خلال إحدى جلسات الرسم، اقترب منه رجل مسنّ، جلس بجانبه وقال له: “هذه الجدران تحمل رسائلنا. أنت لا ترسم فقط، بل تُعيد لنا الحياة.” تلك الكلمات أثارت في قلب سامر قوة جديدة. استمر في الرسم، مسلحًا بعزيمة لا تُقهر. لم يعد يهتم إن تم تدمير جدارياته، كان يعرف أن هناك دائمًا جدار جديد ينتظر أن يتحدث. يبدو ان عدوى الجدران الملونة امتدت لفنون أخرى فها هي الآلات الموسيقية تصدح جنبا الى جنب مع الفراشي وبقع الدهان. تشارك سامر مع أصدقائه الموسيقيين في جلسات فنية، يجتمعون معًا، هو يرسم، وهم يعزفون. كانت الجدران تنطق بالصور، والموسيقى تضيف لها صوتًا. هذا المزج بين الصوت والصورة كان تعبيرا عن جوهر الصمود. مع مرور الأيام، تزينت جدران غزة بلوحات سامر ورفاقه. لم يعد الجدار مجرد هيكل صامت، بل أصبح شاهدًا على نضال مستمر. في كل زاوية، يمكنك رؤية أمل مرسوم، قصة تُروى بصوت ألوان باهتة لكنها مليئة بالحياة. حتى وإن تلاشت الألوان أو هُدمت الجدران، ظلت الرسائل حيّة في قلوب الناس. الفن في غزة لم يكن مجرد تعبير عن الذات، بل أصبح جزءًا من الهوية والمقاومة، وسامر كان أحد رواد هذا الصمود الفني. الجدران شاهد اثبات على حب الحياة والامل بها والمقاومة لنيل الحرية.