جلستْ مقابلي على الطاولة الأخرى شابة ثرية في ملبسها وحسنها والهدوء، وجهاً لوجه تلوّح للقمر.. لم أنفك من النظر إليها مع ما بي من لوعة وحدة وألم غربة وفراغ، وشغف هوى وأمل ذليل.. اسحبها في نظراتي، اجذبها إلى داخلي، وأحرك فيها أساطيل الهواجس بصمت وبيل.. وأحرق في جنباتها ألف سؤالٍ وسؤال مصير، وأنعطف على ثنايا روحها، فأهيج بها نعرة الشك والتفتيش عن كل معيبة ونقيصة لم تدركها بعد.. ما دعاها لتصفيف شعرها المجعد، والنظر بطلاء أظفارها، وراحت تعيد تزرير جيب قميصها، مسحت شاشة ساعتها الرقمية، ضبّت سيرها بالإبزيم، عادت ضبطها بالدقيقة، وسطّت قلادة الفراشة على جيدها، أنزلت حقيبتها على الكرسي الآخر الفارغ، حارت بترتيب فنجان قهوتها مرة لليمين ومرة للشمال، أشارت إلى صديقتها التي لم تكن بأقل جمالاً منها بالتواري بها لحجب صورتها عني. مع أني كنت مستقبل ظهر صديقتها، وظللت مرغماً على قياسات تفاصيل جسدها، خاصة أنها كانت ترتدي تنورة قصيرة ما أفرجت عن ساقين مصقولتين كالعاج؛ لكن ما جدوى أن أرى كل هذه التفاصيل ما لم أر تقاسيم الوجه وإيحاءاته. في حين أنَّ الأولى كانت توحي لي بالكثير، خاصة بعدما بدأت أزعزع ثقتها في نفسها، وإرباكها بالانتقال إلى كرسي آخر لتضييق دائرة المشهد، وتضبيب الرؤية في زاوية ضيقة، بعدما كانت الصورة مكتملة حساً وتعبيراً.. لم ينقصني وقتها سوى قلم وورقة، واكتب ملحمة العشق من أول نظرة، آه لو كنت أجيد الشعر، النثر، التعبير عما يختلج في الصدر، أو حتى ترتيب الأشياء فوق الأشلاء، لأفصح عن سحر الحب في قلبي وسر الرب؛ كأني الأديب الألمعي من حي أرض (البصرلي). انتقلتا سريعاً إلى التهامس والوشوشة، وهما يلتقطان صور السيلفي من جوانب مختلفة، يتقاربان تارة ويبتعدان أخرى، وينفردان ويجتمعان مرات.. وأنا أتساءل من صاحب الحظ والحظوة بهذه الصور الجميلة، من سيربح المليون المصّمت بالقبل.؟ من ذاك الذي أو الذين سيكونون ضحايا لهذا الحسن.؟ كم أنفاً متجبراً سيمرغان في الوحل، وكم عيناً كليلة النظر سيكسران، وكم قلباً وديعاً سيألمان، وروحاً مكلومة تنزف حسرات؛ آه ما أطغى وأعتى هذا الجمال وذاك.! كانت باحة المقهى مكتظة بالزبائن، عامرة بالجنسين، عوائل وأحبة وأصدقاء.. وأنا من بين كل هؤلاء وحيد بليد تائه بغربتي.. ركزت على بقعة ضوء بعيدة، لا أشيح بوجهي عنها، لا أعرف ما سر التعلق والانجذاب سوى البلاهة.! خاصة بعد ما ابتاعت الشيبس والفشار، وراحتا يقرمشان ويأكلان بصوت مسموع عن عمد، على الرغم من إغلاق شفتيهما والمضغ بطريقة هادئة، كان لابتسامتها صوت، ولروحها موسيقى لحن آسر وأغنية تراث.. أغوص في عينيها بعيني الكليلتين، أغرق في غور بحرها، أنجو، أطفو في مروجها الخضراء النضرة، أتنفس ذكرى حبيبتي (ذكرى) قبل أربعين عاماً، آوه كمْ بُعدت الشُقة، وكانت المسافة نائية بعيدة، والعمر هضيم.! ورحت بلا وعي اطلب النادل بين فترة وأخرى وأنزل (موهيتو فراولة) و(كريب فواكه بالكريمة) و (جيلاتو) حتى امتلأت الطاولة بأصناف لم أعرفها لولا (المنيو المُصوّر)، حتى أني لم استسغ طعمها، لأنني كنت جائع عشقٍ وظمآن هوى.. كظمت غيظ نفسي، واشتريت الشيبس والفشار لأحفادي، وغزل البنات الوردي الذي كان يشبه خدها وقدها الأسيل، كسيرَ العين، أتعثر بصورتها وأرصفة شوارع الليل المكتظة بالصبايا والسائبين، وأتخبط بالسكارى أقراني وخمرة الماضي تفوح بالمنايا والحنين.
“كسير عين”
مجلة الجمان
https://m-aljuman.com
“كسير عين”
جلستْ مقابلي على الطاولة الأخرى شابة ثرية في ملبسها وحسنها والهدوء، وجهاً لوجه تلوّح للقمر.. لم أنفك من النظر إليها مع ما بي من لوعة وحدة وألم غربة وفراغ، وشغف هوى وأمل ذليل.. اسحبها في نظراتي، اجذبها إلى داخلي، وأحرك فيها أساطيل الهواجس بصمت وبيل.. وأحرق في جنباتها ألف سؤالٍ وسؤال مصير، وأنعطف على ثنايا روحها، فأهيج بها نعرة الشك والتفتيش عن كل معيبة ونقيصة لم تدركها بعد.. ما دعاها لتصفيف شعرها المجعد، والنظر بطلاء أظفارها، وراحت تعيد تزرير جيب قميصها، مسحت شاشة ساعتها الرقمية، ضبّت سيرها بالإبزيم، عادت ضبطها بالدقيقة، وسطّت قلادة الفراشة على جيدها، أنزلت حقيبتها على الكرسي الآخر الفارغ، حارت بترتيب فنجان قهوتها مرة لليمين ومرة للشمال، أشارت إلى صديقتها التي لم تكن بأقل جمالاً منها بالتواري بها لحجب صورتها عني. مع أني كنت مستقبل ظهر صديقتها، وظللت مرغماً على قياسات تفاصيل جسدها، خاصة أنها كانت ترتدي تنورة قصيرة ما أفرجت عن ساقين مصقولتين كالعاج؛ لكن ما جدوى أن أرى كل هذه التفاصيل ما لم أر تقاسيم الوجه وإيحاءاته. في حين أنَّ الأولى كانت توحي لي بالكثير، خاصة بعدما بدأت أزعزع ثقتها في نفسها، وإرباكها بالانتقال إلى كرسي آخر لتضييق دائرة المشهد، وتضبيب الرؤية في زاوية ضيقة، بعدما كانت الصورة مكتملة حساً وتعبيراً.. لم ينقصني وقتها سوى قلم وورقة، واكتب ملحمة العشق من أول نظرة، آه لو كنت أجيد الشعر، النثر، التعبير عما يختلج في الصدر، أو حتى ترتيب الأشياء فوق الأشلاء، لأفصح عن سحر الحب في قلبي وسر الرب؛ كأني الأديب الألمعي من حي أرض (البصرلي). انتقلتا سريعاً إلى التهامس والوشوشة، وهما يلتقطان صور السيلفي من جوانب مختلفة، يتقاربان تارة ويبتعدان أخرى، وينفردان ويجتمعان مرات.. وأنا أتساءل من صاحب الحظ والحظوة بهذه الصور الجميلة، من سيربح المليون المصّمت بالقبل.؟ من ذاك الذي أو الذين سيكونون ضحايا لهذا الحسن.؟ كم أنفاً متجبراً سيمرغان في الوحل، وكم عيناً كليلة النظر سيكسران، وكم قلباً وديعاً سيألمان، وروحاً مكلومة تنزف حسرات؛ آه ما أطغى وأعتى هذا الجمال وذاك.! كانت باحة المقهى مكتظة بالزبائن، عامرة بالجنسين، عوائل وأحبة وأصدقاء.. وأنا من بين كل هؤلاء وحيد بليد تائه بغربتي.. ركزت على بقعة ضوء بعيدة، لا أشيح بوجهي عنها، لا أعرف ما سر التعلق والانجذاب سوى البلاهة.! خاصة بعد ما ابتاعت الشيبس والفشار، وراحتا يقرمشان ويأكلان بصوت مسموع عن عمد، على الرغم من إغلاق شفتيهما والمضغ بطريقة هادئة، كان لابتسامتها صوت، ولروحها موسيقى لحن آسر وأغنية تراث.. أغوص في عينيها بعيني الكليلتين، أغرق في غور بحرها، أنجو، أطفو في مروجها الخضراء النضرة، أتنفس ذكرى حبيبتي (ذكرى) قبل أربعين عاماً، آوه كمْ بُعدت الشُقة، وكانت المسافة نائية بعيدة، والعمر هضيم.! ورحت بلا وعي اطلب النادل بين فترة وأخرى وأنزل (موهيتو فراولة) و(كريب فواكه بالكريمة) و (جيلاتو) حتى امتلأت الطاولة بأصناف لم أعرفها لولا (المنيو المُصوّر)، حتى أني لم استسغ طعمها، لأنني كنت جائع عشقٍ وظمآن هوى.. كظمت غيظ نفسي، واشتريت الشيبس والفشار لأحفادي، وغزل البنات الوردي الذي كان يشبه خدها وقدها الأسيل، كسيرَ العين، أتعثر بصورتها وأرصفة شوارع الليل المكتظة بالصبايا والسائبين، وأتخبط بالسكارى أقراني وخمرة الماضي تفوح بالمنايا والحنين.
عبد الأمیر المجر
حسن العکیلي
هادي المیاح
التعليقات